Version francaise
محاضرة أُلقِيَت في جنيف, بإطار سنة الأمم المتّحدة للحوار بين الحضارات
سيّداتي سادتي،
لن يكون كلامي الآن أمامكم برهاناً على فكرة، ولن يكون تح
ليلاً لمسألة، ولن أبدأ بشيء ثم أبني عليه حتّى أبلغ الخاتمة بتخريج الفكرة من الفكرة بشكل منطقيّ ومتّسق.
ولن أحاول أن أقنعكم بشيء
.
ولن أحاول أن أغريكم.
سأحاول فقط، أن أكشف لكم عن مشاعر فكّرت فيها جيّداً، وأفكار أحسست بها إحساساً، وحالات مَررت فيها مازالت محفورة في ذهني.
لكنّ هذه المشاعر والأحاسيس والحالات ستبدو لكم، ربّما، متعارضة متناقضة لا انسجام فيها، رغم أنني حاولت أن أكون منسجماً ما استطعت، لكنني أعترف أن هذا لم يكن سهلاً عليّ.
حين زرتُ مدينة نيويورك عام 1989، توقّعت أن ألتقي فيها والدي، وكان هذا الشعور عميقاً وملحّاً بحيث أنّني أمضيتُ اليوم الأوّل، وأنا في برودواي، أتأمّل الوجوه الذاهبة في كلّ اتجاه، علّي أقع على وجهه الذي تأخّر في الظهور!
كنت أعرف أنّ والدي مات منذ ثلاث وعشرين سنة، وأنه مدفون في لبنان، وأنه لم يبتعد عن بلدته طَوال حياته أكثر من ساعات قليلة، لكنّ عمّي، أخاه، هو الذي مات ودُفن هناك في نيويورك، وكان هاجر فتىً، أوائل القرن العشرين، إلى بورتوريكو حيث سبقَه أخوه البكر، ثمّ انتقل إلى نيويورك واستقرّ فيها طَوال حياته، وحين توفّي أقمنا له جنازة في البلدة، وحضر الجنازة ناس كثيرون، كالعادة، وقدّموا لنا التعزية.
وعلى الطريق بين لوس أَنجلوس ولاس فيغاس قلت لأخي المقيم هناك، والذي كان يُقلّني في سيّارته: أشعر كأنني في بلدتنا في لبنان! كأنني في حياة أولى سابقة، قلت له أرجوك توقّف لأنني أكاد أن أفقد توازني!
أحسستُ بأنني آتٍ إلى الوجود بدءًا بهذه المرتفعات! وأنني هناك نشأت، أنا الذي لم أزُرْ “هناك” إطلاقاً من قبل! وكان هذا الإحساس طبيعيّاً، وكانت هذه الطبيعيّةُ بالذات مصدرَ شعوري بفقدان التوازن.
وتساءلت كثيراً وقتها عن حقيقة مسقط الرأس بل تساءلت عمّا إذا كنت أستطيع أن أدّعي صراحة أن مسقط رأسي هو زغرتا في شمالي لبنان!
كنت أحبّ السينما في صِباي، لا يمنعني إلاّها عن المدرسة، وكانت أفلام الوسترن الأميركية التي تجري على تلك المرتفعات تَسحرني. وكثيراً ما كنتُ استدعي أبطالها لزيارتي، وكنت أعت
ذرُ لهم عن تواضع منزلنا. لم يكن بيني وبينهم حاجز من لغة، ولم أكن أتكلّم معهم الإنكليزيّة لغتهم ولا العربيّة لغتي. وكنّا، أنا ورفاقي، نتشبّه بهم ونكرّر ما كانوا يقومون به، وكنّا نحسّ بالحرمان لأنه لم يكن في استطاعتنا إيجاد فتيات نُكرّر معهنَّ المشاهدَ عينَها ومشاهدَ القُبل بشكل خاص، لأنّ الاختلاط بين الجنسين كان في ذلك الوقتِ غيرَ متيسّر.
أعتقد أن مسقطَ الرأس ليس المكانَ الذي يولد فيه الإنسانُ وينشأ فقط، وأنّ الحنين إليه ليس حنيناً إلى مكان محدّد وحسب، فلا بدّ من أن يكون مسقطُ الرأس “مكاناً ثقافيّاً” أيضاً، بل ربّما كان “مكاناً ثقافيّاً” قبل كلّ شيء.
يقول البعض إنّ الحداثة الغربيّة، بكلّ مظاهرها، كانت بالنسبة إلينا نحن العرب وإلى العالم الثالث ككلّ، نوعاً من عرض (spectacle)
أحبّ هذا القول، بل أعتقد أنه صحيح لكثرة ما أرى من حولي كيفما اتجهتُ براهين على ذلك.
لكنّ هذا “العرض” ترك أثراً لا ريب قويّاً فينا. فإذا كانت الحداثة الغربيّة هي ابنة تطوّر الغرب الذاتي، وإذا كانت لهذا السبب بالذات فعلت فعلها فيه بهذا الشكل، فإن هذه الحداثة في بلداننا فعلت فعل الزلزال حتى إذا ما نظرنا إليها من حيث كونها “عرْضاً” وحسب!
يجب أن يكون فطوركم كلّ صباح حليباً مع القهوة، كما في الغرب! كان يقول لنا الأستاذ في المدرسة، فهناك ينهض الناس قبل موعد العمل ويتناولون فطوراً من حليب وقهوة وقليلٍ من الزبدة والمربّى وشرائح الخبز: فالحليب غذاء كامل، والقهوة منبّه، وفي الخبز كمّية كافية من الكالوري.
هكذا يجب أن يكون الفطور!
وكنت أُخفي حزني وخجلي حين أسمع الأستاذ في المدرسة يقول لنا ذلك، لأننا في البيت كنّا لا نفطر هكذا، ولأنني في الوقت نفسه أحبّ أن آكل في الصباح كما نأكل عادة، أي ما تبقّى ممّا طبخت لنا والدتي في الأمس، وأحبّ رغيف الخبز ألفّه على قليل من الزعتر والزيت الزيتون. هكذا أحبّ استقبال النهار. لكنّ التقدّم له مقتضياته، ومهمّة أن نتحوّل إلى مجتمع متقدّم لن تتحقّق إلاّ بقهر النفس.
ما زلت أحبّ أن يكون فطوري كما كان وأنا فتىً في بيت والديّ، وما زلت لا أحبّ الفطور على الطريقة الفرنسيّة التي قال عنها الأستاذ إنها الطريقة الغربية، وما زال فطوري متحوّلاً حسب الظروف، وما زال السؤال مطروحاًً: ما هو مسقط الرأسط إذن؟
لا شكّ أنّ في طبيعة “الحداثة الغربيّة” سعياً إلى تحويل الأسرّة التي يولد عليها الناس جميعاً إلى سرير واحد، ولا شكّ أنّ في طبيعتها تسريعَ هذه العمليّة. لذلك فإنني أمْيَلُ إلى الاعتقاد أنّ كلّ حنين إل
ى مسقط الرأس في هذا العصر هو رفض لهذا السرير بمعنى ما، أو هو عدم القدرة على التكيّف معه. وحين أقول “كلَّ حنين” أقصد كلَّ رغبة في العودة إلى جذرٍ مّا أو أصل أو منبعٍ، لأنّ كلَّ رغبة في العودة إلى جذر ربّمَا كانت حنيناً إلى مسقط الرأس، وبهذا المعنى ربما كانت كلّ أصوليّة، دينيّة أو غير دينيّة، حنين إلى مسقط رأس مّا، مسقط رأس من طبيعة “ثقافيّة” بلا شكّ، وهي في الوقت نفسه عجز عن التكيّف مع مسقط الرأس الفعلي أي السرير الذي توحّده الحداثة، أو عدم رغبة أصليّة، في التكيّف.
كانت “الحداثة الغربيّة” خِيَاراً لا بدّ منه، لكنّها كانت خِياراً صعباً عنيفاً أسال دماً فيما بيننا، وما كان يزيد الأمر صعوبة أننا كلّما كنّا نتقدّم في تقليد هذه الحداثة كلما كانت تُفصح عن عيوبها: الاستعمار، الحروب التي لا تنتهي، وبخاصة الحربين العالميتين العظمَيين في القرن العشرين، وستالين وهتلر، إلخ. وأخيرا وليس آخراً هذه العقلانيّة التي ما تزال تفصح عن عثراتها:
لا أنسى هذا المشهد: في باريس. خرج رجلٌ من الفرن أمامي بعجلة، رجل في الأربعينات يحمل “باغيت” Baguette ونزل درج الميترو في البورت دورليان، فتبعتُه. كان يمسك “الباغيت” عند وسطها، وعندما بلغ محطّة الأوديون كانت قد التوَتْ من وسطها إلى نصفين. في البورت دو كليانكور ترجّلت وترجّل هو أيضاً، ثمّ غاب في مدخل أحد المباني.
كان الميترو عاجقاً بالناس. وكان الوقت حوالى السادسة المساء، وكان الجوّ حارّاً ولزجاً.
قلت إنّ هذا الرجل سوف يصل الآن إلى شقّته، وسوف يجلس مع زوجته وأولاده ليتعشّى، وسوف يقطّع الباغيت إلى شرائح وسوف يضع هذه الشرائح في سلّة، وسوف يضرب ابنَه الصغير على يده ضرباً خفيفاً لأنه أمسك شريحة الخبز بيده وأعطاها إلى أخته عندما طلبت منه خبزاً، لأنه كان عليه أن يقدّم لها السلّة لتتناول بيدها هي ما ستأكله. لا يجوز أن نمسك بيدنا قطعة الخبز التي يأكلها الآخر حتّى لو كانت هذه القطعة عابرةً أنفاق ميترو باريس ملتويةً إلى نصفين في يوم صيفيّ حارّ ورطب.
لا أورد هذا المثل حتى أشير إلى وجود مفارقة، فلست من الذين يحبّون بلوغ النتائج انطلاقاً من المفارقات. أورد هذا المثل حتى أشير إلى أمر يشغلني فعلاً.
يدهشني العقل حين أتأمّلُ أرض الشوارع المخصَّصة للمشاة في باريس مثلاً، فأرى هذا العقل دارساً جميع احتمالات حركة الماء: أرض الشارع جهتان، يمنى ويسرى، تنحدران نحو م
سرى الماء ذاته في وسط الطريق، ثمّ ينعطف هذا المسرى نحو اليمين أو نحو اليسار، بطريقة ذكيّة جدّاً تأخذ في الاعتبار قوّة اندفاع الماء حين يبلغ المنعطف. يحتال المنعطف على الماء احتيالاً حتّى يستوعب اندفاعه.
لا أستطيع وأنا أتأمّل ذلك ألاّ أرى فيه إيمان الإنسان بقدرة العقل على السيطرة على الطبيعة وعلى الحياة بكل مظاهرها، ثمّ تذهب بي أفكاري إلى أبعد من ذلك. إلى أبعد من ذلك بكثير. إلى أنّ العقل هو الأداة التي يحتال بها الإنسان على ذاته، ليستطيع الاستمرار في الحياة، وأقول الإنسان وأقصد كلّ إنسان، لأني لا أرى فرقاً في ذلك، وعلى هذا المستوى، بين غرب وشرق.
ثمّ تذهب بي أفكاري إلى أنّ الأديان ذاتها ربما كانت حيلة عقليّة ينتصر بها الإنسان على الموت، فيغصّ بي الحلق عندذاك وأقول: نحن في العتمة، وما العقل سوى الوهم الذي لا مفرّ منه!
لا شيء بين أيدينا سينجّينا نحن الكائنات البشريّة من بؤسنا!
##
كنت ماركسيّاً عندما بدأت الحرب في لبنان عام 1975، أي كنت أؤمن بأن الماركسيّة منهج علميّ يمكّننا من فهم العالم وبخاصة المجتمع البشري، ومع بداية الحرب في لبنان أحسست بسرعة أن هذا المنهج لا يصلح إطلاقاً لفهم شيء مما يجري، وأنّ المفاهيم التي يعمل بها ليست عملانية إطلاقاً، أحسست أن هذه المفاهيم كلام وحسب لا علاقة له بما يجري في لبنان على الإطلاق. أحسست أنها كلام يجري وحده على ألستنا، وأننا نحن أداة له حتى يقول نفسه. بل أحسست أن كلّ تفكير عقلاني يخرّج فكرة من فكرة هو كلام لا علاقة له بما يجري. وبتّ لا أطيق أي تحليل سياسي. لقد سقطت المفاهيم كلّها أمام هذا الوضع الأبوكالبتي. وفي تلك الفترة قلت إنه من المستحيل عليّ وعلى كلّ إنسان أن يفهم ما يجري، مهما كان المنهج الذي يتبعه في التحليل، وقلت إنّ كلّ ما أستطيع فعلَه هو القول، قول ما أنا أعيشه وما أنا شاهد عليه، وقلت إنه ليس من سبيل إلى ذلك سوى الأدب، فهو وحده القادر على قول هذا الذي يجري، وهذا الهذيان الذي لا يحكمه منطق ولا قانون، والذي لا يمكن القبض عليه بالمفاهيم. وما كان يدفعني إلى قول هذا الواقع هو حاجتي إلى إظهار هذا الليل الذي تخفيه أشعّة الشمس. في تلك الفترة كتبت:
“الليل الحقيقة والنهار بيان”.
وفي تلك الفترة كتبت:
“الفجر أوّل الصبر”
وفي تلك الفترة كتبت:
“سألتُ أمّي لماذا ولدتُ أجابتني: أأبقيك في بطني!”
وما كان يَدفعُني إلى قول هذا الواقع هو حاجتي إلى البوح، إلى الصراخ، إلى طلب النجدة من بشريّة غافلة: حين صدرت روايتي “فسحة…” في ترجمتها الفرنسيّة كنت أُصدم في سرّي كلّما قال لي أحدٌ بأنّ كتابي جميل! لأنني كنت أتوقّع وأنا أكتب هذا الكتاب أن يهبّ من سيقرؤه إلى النجدة، بل كنت أفاجئ نفسي أحياناً أفكّر بكلّ سداجة في أنّ الناس ما أن تقرأ هذا الكتاب حتى تنزل إلى الشوارع مطالبة بإيقاف الحرب في لبنان فوراً.
##
الحرب حيلة
لكنّ أحداً من قرّاء هذا الكتاب أو من قرّاء كتبي الأخرى التي تلت أو التي سبقت، لم ينزل إلى الشارع، واستمرّت هذه الحرب حتى نفد مخزونها من الطاقة.
لكنني مع استمرارها ومع بلوغ التفاهة أثناءها أعماقاً لا قاع لها، اكتشفت أن الحرب بشكل عام ربّما كانت شيئاً لا مفرّ منه لأنها بكلّ بساطة حيلة!
قلت إنّ الحرب إذن حيلة ابتدعها الذكاء البشريّ حتّى يحتال بها الناسُ على أنفسهم فيظنّوا أنّ للموت سبباً، ويقتنعوا بذلك. والحيلة هذه إذا ما نظرنا فيها قليلاً وجدناها شديدة البساطة: الحرب آلة قتل، أي آلة موت، وإيقاف الحرب إيقافٌ لآلة القتل أي إيقاف لآلة الموت. فإذا ما نجحنا في إيقاف الحرب نكون نجحنا في التغلّب على سبب الموت، أي على الموت بالذات.
ليس من السهل إطلاقاً أن يقبل الإنسان بمصيره الأبديّ، أي الموت! لذلك لا بدّ من أن يبتدع له أسباباً مقنعةً كالمرض والشيخوخة واليأس… والحرب أيضاً!
إنّ عقلنا يعلّمنا بأنّ لكلّ شيء سبباً، وعليه، فإذا ما كان للموت سبب استطعنا معالجتَه، واستطعنا التغلّب عليه بإبطاله.
حيثما يوجد سبب يوجد كلام، يوجد أخذ وردّ، توجد إمكانيّة
.
لماذا أفاجئ نفسي أفكّر دائماً بأنني إذا ما تيّقنت ذات يوم من أنني سأموت قريباً لسبب ما، فسأقوم بعمليّة انتحارية! أمّا الضدُّ الذي سيكون هدف هذه العمليّة، فأحدّده في حينه!
لماذا أريد أن يكون موتي مفيداً بهذا الشكل الساطع؟ لماذا لا أفاجئ نفسي أحلم بأن تكون حياتي مفيدة بهذا الشكل الساطع؟
أليست البطولة هي الجرأة على الموت قبل كلّ شيء؟
حين يضحّي أحدٌ حتى الموت من أجل قضيّة نقول عنه أحياناً بالعربيّة إنّه قهر الموت!
إلى هذه الرغبة في أن يكون للموت سبب، أي إلى رغبة الإنسان في الانتصار على الموت، أردّ شعبيّة الرواية البوليسيّة. للموت في هذه الرواية سبب.
بل أعتقد أنه ربما كان لذلك يَقتلُ المؤمنُ! إنّه يحاول أن ينجّي نفسَه، فيقتل في الآخر، المختلفِ عنه، إذ يقتله، الشيطانَ مصدرَ الشكّ! الشيطان هو الفجوة التي يرى منها المؤمن حقيقةً مخالِفة للحقيقة التي يؤمن بها. المؤمن يقتل لأنه لا يريد أن يكون على خطأ في إيمانه، لأنّ الخطأ بالنسبة إليه هو الفناء بالذات. إذا كان المؤمن مخطئاً فإنه فَانٍ لا محالة. لذلك فالمؤمن لا يعتدي بل ينجّي نفسه بأن يتخلّص من خطئه، وخطؤه متجسّد في الآخر المختلف بعناد. المؤمن يرى في المختلف عناداً لا يمكن أن يحتمله.
##
الموت والتكنولوجيا
لست أخترع شيئاً إذا ما قلت وردّدت أنّه ليس من السهل أن يقبل الإنسان بمصيره الأبديّ، أي الموت. بل إنّ قبول هذه هذه الحقيقة والتسليم بها أمرٌ مستحيل.
أوّل مرّة رأيت موتير سيّارة صُعقت، كان عمري نحوَ العاشرة. اندفعت نحوَه عندما رفع السائق غطاءه، ومددت يديّ الإثنتين كأنّما لأقبض عليه بهما، كأنما لآكله، فاحترقتا. لم أَعِر أنتباهاً لما قاله لي السائق وقد نهرني واصفاً إيّاي بالمجنون، لأن كلامه كان خارج السياق تماماً. ما زلت أفكّر فيما جرى لي تلك اللحظة. كنت أربط في مر
حلة أولى من حياتي بين ردّ فعلي هذا وما كنت بدأت أتعلّمه في المدرسة عن التقدّم والعلم، وما كنت بدأت أسمعه عن الإختراعات والاكتشافات وهي أخبار كانت تدهشني وتترك فيّ أثراً لا يمكن وصفه، بحيث أنني حين سمعت في الصفّ أوّل مرّة أن الأرض مستديرة وأنها تدور حول نفسها وحول الشمس ازدادت دقّات قلبي وأغمي عليّ لدقائق قليلة. لكنني فيما بعد، في مرحلة تالية، متأخّرة، وبشكل خاص بعد الخيبة الكبرى، أي بعد حرب لبنان التي دامت تغرق في تفاهة بلا قاع لمدّة خمس عشرة عاماً، صرت أقيم صلة بين موتير السيّارة والموت! نعم والموت! قلت لأحد أساتذتي في الجامعة مرّة: أتعرف ما الصلة بين مولّد السيّارة والموت؟ فتبسّم، وكنت أكيداً من أنه سيتبسّم، قلت لمّا رأيته لا يجيب: الموت! لو تأمّلتَ مولّد سيّارة لرأيتَ أنه متاهة لنسيان الموت! كلّ هذه الأشرطة والبراغي والنرابيش والأدوات والآلات… من استقرّ فيها نَسِيَ!
الحداثة
وقد ذكّرتُ أستاذي بهذه الحادثة عندما زرته قبل وفاته بأسابيع، فلم يتذكّرها، بل قال إننا (ويقصد نحن العرب)، لم ننجح في صناعة مولِّد! ذكّره ذِكْري للمولّد بشيء آخر أمضى عمره يفكّر فيه وهو: كيف ننجح في تحديث مجتمعنا. قال: انطلق اليابانيون من ذات النقطة التي كنا فيها لكنهم نجحوا في حين لم ننجح نحن.
لآ أعتقد أن أستاذي الذي كان يعرف أنّ مرضه لا شفاء منه، أراد أن يعطيني درساً في اللياقة حين تكلّم على الحداثة بينما كنتُ أكلّمه على الموت، بل أنا متأكّد من أنّه نسي موضوع علاقة المولّد بالموت الذي أردت استعادته، وتذكّر أمراً لم ينسَه إطلاقاً طوال حياته وهو أمر الحداثة الذي كان شغل حياته الشاغل، كما كان وما يزال الشغل الشاغل لجميع المثقّفين والقادة والسياسيين العرب. خاصة وأن المولّد عندنا ربما كان كناية عن الصناعة، والصناعة التي نسمّيها اليوم التكنولوجيا، هي التحديث في الأساس. ربما لا أخطئ إذا قلت إنّ التحديث عند أستاذي كان بأهمية الموت أو ربما كان أكثر أهميّة إذا ما اعتبرنا أن الموت لا بد منه بينما أن عملية التحديث رهان قد ينجح وقد لا ينجح.
ولا أعتقد أنني ورثت اعتباري للتكنولوجيا عن أستاذي لأنني منذ صحوت على الدنيا وأنا مندهش بها، وكانت أهميّة التكنولوجية عندي كبيرة بحيث أنها باتت مع الأيّام مضادّة للشعر الذي كنت أحبّه وأكتبه، وصرت كثيراً ما أفاجئ نفسي أقول بأن التكنولوجيا يجب أن تحلّ محلّ الشعر. ربما كان ذلك للأهمّية المعطاة عادةً للشعر في حياتنا الأدبيّة والمدرسيّة مقابل ضعف الاهتمام بالعلوم وتوابعها. عندما بدأت أتحوّل باكراً في شبابي إلى ما كنّا نسمّيه “الفكر العلميّ الماركسيّ”، توقّفت عن كتابة الشعر ونشره، محتجّاً بضرورة نشر الوعي الثوري، أي العلميّ. كان الشعر في تصوّري لا يشجّع على تنمية الروح العلميّة. كان الشعر مضاداً للفاعليّة
.
أمّا اليوم فلم تعد عندي القناعات ذاتها، لكنني ما زلت أجري بشكل عفويّ تضاداً بين الشعر والتكنولوجيا، من دون أن يكون عندي تصوّر واضح لهذا التضاد أو برهان متطوّر عليه، لكنني في الوقت نفسه لا أنكر أنني أندهش عندما أرى منتجاً صناعيّاً جميلاً، خصوصاً إذا كان كومبيوتر. بل يخفق له قلبي بلا حرَج، وينتعش به خيالي، وأكثر!
وكثيراً ما أحلّ هذا التناقض الذي أقيمه بين التكنولوجيا والشعر بقولي إن القصائد المعاصرة هي المنتجات التكنولوجيّة!
التكنولوجيا والغلبة وتوحيد الكوكب
ولا شكّ أن اعتباري للتكنولوجيا له علاقة بإحساسي بالغلبة، أي بإحساسي بأننا نحن العرب مغلوبون على أمرنا، وبأنه علينا أن نسير في خطى التقدّم، أي أن نكون دولاً صناعيّة، حتى نستطيع المحافظة على كرامتنا، بل على وجودنا بالذات. فإذا كانت التكنولوجيا انتصاراً بمعنى ما على الموت، فهي من باب أولى انتصار على الأعداء أو على الأقلّ هي وقاية من ضرر هؤلاء الأعداء وردّ لهذا الضرر.
إنّ هذا الكوكب “يتوحّد” بالتكنولوجيا، لكن على حساب شعوب بكاملها.
حين تطرق كرةٌ العارضةَ أثناء مباراةٍ دولية في كرة القدم، منقولةٍ بواسطة الأقمار الصناعيّة، أنهض عفواً عن مقعدي، كما ينهض مئات الملايين من البشر في اللحظة ذاتها. يدهشني هذا وأحبّه، وأحبّ أن تكون القواعد الواحدة لهذه اللعبة توحّد ردّ فعل مئات الملايين من البشر في جميع أنحاء الأرض. لكنّ الفِرَق الأوروبيّة هي الرابحة في جميع البطولات على وجه العموم، وفي ذلك دلالات خطيرة.
ولست أشير هنا إلى خطورة هذه الدلالات بدافع من المشاعر الوطنيّة، فأنا مثلاً لست ضدّ أن تكون اللغة لإنكليزيّة لغة تفاهم مشتركة بين جميع شعوب الأرض، ولست بالطبع ضدّ أن تكون لغةٌ أخرى غيرها في هذا الموقع، بل اعتقد أنه من المفيد أن يكون هناك لغة مشتركة تسهّل التفاهم بين البشر، وليس من المهمّ أن تكون هذه اللغة بعينها أو تلك، وإن كنتُ اخترتُ العربية أوّلاً لو كان القرار بيدي، ومن ثمّ الفرنسيّة، لأنّ الأولى لغتي والثانية أعرفها.
لكنّني أشير إلى خطورة هذه الدلالات لأنّ كوكبنا الذي نعيش جميعاً عليه يصغر كثيراً، ولأن المسافات تختصر سريعاً، وهذا يعني أنّ مشاكله تكبر وت
تعقّد، وتنعكس بمزيد من الشدّة والقسوة على المواضع الأقلّ صلابة منه، فتطحنها طحناً أحياناً، كما في لبنان مثلاً وكذلك في بلدان كثيرة أخرى، لكنني أخصّ لبنان لأنني أعرفه وأحسّه أكثر من أي بلد آخر، ولأنه بلد طحنته التغيّرات في مصالح الأمم.
الأقليّة والفرق اللطيف
إنّ كوني من عائلة عربيّة مسيحيّة، ربما سمح لي برؤية أمور لا يراها المطمئنّ إلى انتمائه اطمئناناً لا ذرّة حذر فيه.
أعترف أوّلاً بأنني أشعر بفخر لكون اللغة العربية لغتي الأمّ، فهي لغةُ نحوٍ من مائتين وخمسين مليون عربيّ، وهي لغة القرآن التي يحلم بمعرفتها مليار مسلم غير عربيّ في كلّ أنحاء العالم. كلّ هذه المئات من الملايين تنظر إلى حروفها كأنها مفاتيح لأبواب السعادة الأبديّة، وهي، أقصد هذه اللغة، في قلبي، أنا العربيّ المسيحيّ، وأنا في قلبها، أنا صنيعتها وأنا فاعل فيها!
وحضور المسيحيين العرب في اللغة العربية ليس من اليوم، بل من أوّل التاريخ العربيّ ومن قبل الإسلام، واستمرّ ما بعده، وهو ما زال مستمرّاً حتى اليوم!
إنني أحبّ ذلك وأفخر به، وأعتبره بلا شكّ دليلاً على عظمة هذه الحضارة العربية الإسلاميّة.
من هنا فإنني أحبّ كثيراً حين يقال إنّ لبنان، هذا البلد العربيّ المؤلّف من مسيحيين عرب ومسلمين عرب متعايشين بوئام كمواطنين، هو أكثر من وطن، إنه رسالة. هذا كلام أحبّه وأرتاح إليه.
بل أضيف: هذا بلد يمكن أن يكون للمستقبل
!
لكنّ الحلم شيء والواقعَ شيء آخر، إذ أنّ لبنان هو البلد الذي، وبسبب من تركيبته هذه بالذات، تتماسّ فيه قارات من المصالح الجيوبّوليتيكيّة، فتتطاحن على أرضه وبفئاته، مستغلّةً إيّاه بشكل ماجن وفاحش، (obscene) وبلا قلب ولا رحمة ولا شفقة.
وأكره شيء عليّ هو أن يتحوّل المسيحيّون العرب إلى أقليّة، بدل أن يكونوا لوناً مختلفاً وحسب!
لا أريد أن أكون أقلّيةً، بل أريد أن أكون فَرْقاً لطيفاً، (nuance)، أريد أن أكون لوناً آخر مختلفاً ومكمّلاً لهذه اللوحة العظمى التي هي الحضارة العربيّة الإسلاميّة. ولا شيء عندي ضدّ الأقلّيّات، بل بالعكس، فكلّ تعاطفي يبقى معها، لأنّ ظلم الأكثريّة لا يختلف عن ظلم الأقلّيّة بل ربّما كان أشدّ أذىً، وكثيراً ما كانت الأقلّيات عامل تقدّم خطير بحكم كونها على مسافة من كثير من المسلمّات التي تحكم سلوك الأكثريّة، لكنني شخصيّاً أحبّ أن أكون فرقاً لطيفاً لا أقلّية.
الوطنية مسؤولية صعبة
وإذا ما ذكرتُ لبنان، فليس من باب الشعور الوطنيّ، فالوطنيّة مسؤوليّة لا أدري ما إذا كنت ما زلتُ أستطيع تحمّلها. أجرؤ على القول إنّ قِيَماً أخرى كالعدالة مثلاً والحرّية هي أقرب إليّ من الوطنيّة، أو بكلام آخر، لا أستطيع تمثُّلَ قِيَمٍ كالوطنيّة إلاّ إذا كانت تندرج في تلك القيم الأخرى، وهي ليست دائماً كذلك. فالوطن ليس دائماً على حقّ. بل أريد أن أقول وإن بدا كلامي على شيء من الاستفزازيّة إنّ الوطن نادراً ما يكون على حقّ!
وإذا ما ذكرتُ لبنان فلأنه المكانُ الذي تتماسّ فيه أديان
كبيرة وفاعلة، وحضارات كبيرة وفاعلة، ولأنّه أيضاً، من هذه البلدان التي تصنع مآسيها الدوريّة. بلدان كأعشاب السطوح تيبس عند أوّل حرّ شمس.
لبنان هذا يختصر كثيراً من مشاكل العالم اليوم. الحداثة والتقليد، الغرب والشرق، الإسلام والمسيحيّة، الجامعات والجهل، الغنى والفقر، المقيمون والمغتربون، اللاجئون والمهجّرون.
التسامح
ليس ذكري للبنان هنا إذن بداعي الوطنيّة. بل لأنّ فيه تُطرح جميع هذه المشاكل، التي أريد أن أخصّ منها مسألة التسامح بين الأديان والمذاهب المختلفة، وهذه مسألة تقلقني بشكل خاص. أتناول هذه المسألة بسؤال: لماذا غالباً ما يجري الكلام على التسامح وليس على الحق؟
إنني أقيم تضادّاً بين الإثنين.
ما أطالبُ به هو أن حقّي في أن أكون مختلفاً يجب ألاّ يكون موضع نقاش من قبل أحد، خصوصاً إذا كان هذا الاختلاف نتيجة الفطرة، ولم يكن نتيجة اختيار واع. ثم بعد القبول بالحقّ يأتي دور التسامح من أجل تدعيم هذا الحقّ. أعتقد أنه لا بدّ من تعميق ثقافة التسامح ونشرها، ولكنني لا أخفي خوفي من فكرة التسامح هذه إذا ما تُرِكت مرسلة وحدها، أي إذا لم تكن مبنيّة على شيء آخر أكثر صلابة منها. بين التسامح والاستعباد خيط رفيع كثيرا ما يكون واهياً. وبين التسامح والانتقام مسافة خطوةٍ كثيراً ما نجتازها.
إرهاب القضايا المحقّة
وأخصّ لبنان بالذكر أيضاً لأنه من بين البلدان التي يشعر فيها الإنسان بأنّ القضايا المحقّة تمارس إرهاباً يقمع كلَّ سؤال (لا أعتقد أنّ بلداً يخلو من هذا الارهاب وإن بدرجات متفاوتة). وهو أمر أودّ الوقوف عنده: أعتقد أنه من الضرورة بمكان العمل على التحرّر من إرهاب القضايا المحقّة! نعم، إن القضايا المحقّة تستحقّ أن يُناضلَ من أجلها بلا ذرّة شكّ، وتستحقّ كلّ تضحية بلا ريب، لكننا في الوقت نفسه علينا ألاّ ننسى أن هذه القضايا بالذات، مهما كانت طبيعتها، بيئةً أم تحريراً أم عدالة اجتماعية، لا تترك مجالاً للاستدراك! يجب أن نبلغ مرحلة لا يعلو فيها دم الشهداء على أصوات الآخرين الأحياء. أعرف أنّ هذا الكلام قاس جدّاً، لو سمعه رفاق لي كنت معهم ذات يوم وراء المتراس الواحد ذاته، فسقطوا هم وبقيت أنا حيّاً، بالصدفة البحتة، لانفجروا من الغضب لا ريب. أراهم أمام عينيّ الآن ينفجرون من الغضب لو سمعوا كلامي، لكنني في الوقت نفسه أُعزّي نفسي بالقول إنهم لو استفاقوا ورأوا كيف تطوّرت الأحداث بعد استشهادهم، لقالوا بما أقول، وهو أنه علينا ابتداع وسائل أخرى غير الدم لإحقاق ما نعتبره الحقّ
.
أقول هذا الكلام وأنا الذي أعرف أن الظلم الذي يُمارس الآن على شعوب بكاملها لا يُحتمل! وانّ الكيل بمكيالين يكاد يكون القاعدة. إنني شخصيّاً لا أحتمل الظلم وإنني على استعداد لأن أهدر دمي لردّه. ورغم ذلك أكرّر أنه بات علينا التخلّص من إرهاب القضايا المحقّة، وعلينا إقناع الشهداء بالحوار… بل بالتفاوض. نعم! علينا إقناعهم بذلك وليتنا نستطيع، لأنني لا أرى حلاًّ آخر في الأفق المنظور. الحلّ الوحيد هو أن يتحاور الشهداء وأن يعرضوا ما جرى لهم وما جرى بعدهم.
الضحيّة جلاّد
وتجربة لبنان علمّتني أيضاً أنه ما من ضحيّة إلاّ تحوّلت إلى جلاّد.
علينا منع الضحيّة من أن تتحوّل إلى جلاّد، كما هي الحال غالباً في هذا العالم، بل دائماً.
أعرف أن هذا مستحيل. لكنّ كونه مستحيلاً لا يعني إطلاقاً أنني أسوقه على سبيل المفارقة، بل إن هذا الكوكب يصغر ويضيق بحيث أنه لم يعد ينفع معه إلاّ الحلول المستحيلة.
لذلك علينا تحرير الضحيّة من ذاتها.
أعرف أنّ هذا كلام قاس جدّاً، قد لا يحتمل سماعه كثيرون. بل أفاجئ نفسي أنا أيضاً أشعر بأنه كلام لايُقال. وأخاف حين أفكّر فيه أن أكون في العتمة المطبقة.
كنّا صبيةً في البلدة ومرّت مجموعة من رجال سود طوال ببدلات بيضاء على الأقدام إلى مقهى كان قريباً. لم يكن أحد منّا قد شاهد رجلاً أسود. فلحقناهم بالحجارة نقذفهم بها، فتشتتوا في أزقة البلدة وتابعنا نلحقهم ونستفردهم. ولولا أن ردّنا الكبار بالقوّة، لا أدري ما كنّا عملنا بهم.
****
وأخيراً، وبعد هذه الجولة السريعة على عدد من المواضيع التي تشغلني وتقلقني، أودّ أن أعترف أنّه ربما كان في كلامي حقيقةً شيءٌ من التناقض، وهو أمر لا يفاجئني، لأنني أعرف جيّداً أنني أغصّ بالتناقضات، فأنا أحاول أن أرى بكلّ العيون، وأن أسمع بكلّ الآذان، وأحاول أن ألبس جلد عدويّ وأن أرى بعينيه… وكذلك أحاول أن ألبس جلد الزوجة التي تهجر زوجها لأنه لا يطاق وجلد الزوج المصدوم، وجلد الولد الذي لا يعترف بفضل والده عليه، وإلى آخره…
بكلام آخر أحاول أن أبلغ مرحلة الحكمة… لكن مع ذلك، يؤلمني أن أرى أحياناً أنّ مع كلّ عدوّ كلّ الحقّ، وأن مع الزوجة حقّ ومع الزوج حقّ ومع الابن حقّ… ويؤلمني هذا لأنه ليس من السهل ألاّ يكون للإنسان عدوّ يستطيع أن يكرهه ويسعى للتخلّص منه أو على الأقلّ تسخيفه والسخرية القاتلة منه، لأن الحياة حينذاك تفقد نكهتها. لقد كتبت ذات مرّة هذه العبارة:
“عادُوا لتطيب مآكلكم!”
رشيد الضعيف