“لن أسمح لهذه الطبقة السياسية بأن تجبرني على ترك لبنان، ولن تنتصر عليّ”، يقولها رشيد الضعيف كأنه يعلن بداية معركته السياسية مع النظام. لكن معركته هذه تتخذ أشكالاً مختلفة عن النضال السياسي المباشر. الروائي الذي تعمق في الماركسية والنضال قبل بداية الحرب الأهلية، لأسباب يشرحها في لقاء مع “شباب السفير”، قرّر على إثرها التوقف عن نشر كتاباته، ليختار في نهاية الأمر، وبعد اندلاع الحرب، العودة إلى النشر.
الفوضى، وكذلك الخواء الذي سبّبته الحرب، كرّسا قناعته بأن الأدب هو الوسيلة الوحيدة للتعبير عنها. فوضى لم تتوقف حتى بعد انتهاء الحرب، لتصبح مصدر استفزاز مستمرا يحفزه على الكتابة. فالروائي الذي نال حصة من جروح الحرب بعد تعرضه لإصابة بالغة أثناء الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، يقول “تعودت كسائر اللبنانيين أن آخذ قيلولتي على ظهر العاصفة”، معتبرا أن المواضيع التي يتناولها تطرح الأسئلة على المبادئ وعلى الأسس الأخلاقية التي تتحكم بالسياسة.
يتنقل الضعيف بين كتابة الروايات وتدريس الكتابة الإبداعية. بالنسبة إليه، كل شخص قادر على الكتابة، وكثرة الروايات لا يمكن الا أن تنتج عنها ايجابيات كثيرة في عالم الرواية. عالم لا يتشارك مع الكثيرين في محيطه النظرة في المتشائمة لمستواه. يحمل الضعيف نظرة ايجابية لواقع الفنون الإبداعية، رغم كل الصعوبات. ايجابية يترجمها في تحفيز تلامذته ليكتبوا رواياتهم الخاصة، مؤكداً في الوقت ذاته “ليس كل من كتب سيصبح نجيب محفوظ أو بشهرته، لكن الأكيد ان هناك لونا، وإحساسا، ومزاجية جديدة ستضاف الى عالم الرواية في حال كتبوا”.
إعداد: آدم شمس الدين
تحكم العديد من المثقفين والمبدعين عقلية فوقية بالتعامل مع الآخرين، من منطلق إن ما يمتلكونه من مخزون ثقافي وفكري يتيح لهم الاستعلاء على العامة. إلى أيّ درجة توافق على هذا التوصيف؟
شارك في السؤال: رنا محفوظ
هناك فرق بين المثقف والكاتب والباحث. هناك كتاب مثقفون وباحثون مثقفون، وهناك كتاب وباحثون فحسب. أنا من النوع الثاني. أنا روائي وأستاذ جامعي فقط. لست مثقفاً، وتحديدي للمثقف هو التحديد التاريخي: المثقف هو الكاتب أو الباحث أو المحامي الذي يستخدم الـ”بريستيج” وأهميته من أجل قضية يعتبرها عادلة. بالمناسبة هذا تقليد يؤرخ برسالة إميل زولا في قضية درايفوس “اليهودي”. بهذا المعنى لا أعتبر نفسي مثقفاً ولا أستعمل هذا الـ”بريستيج” لخدمة مهنتي. المثقف يضع نجاحه في مهنته لتغليب رأيه في قضية عامة. نحن في بلداننا لدينا تضخم من المثقفين بحيث أن الآية انعكست. فالروائي أو الشاعر أو الباحث يستمد أهميته من القضية التي يريد خدمتها وليس العكس.
تعتقد إن جنون الفوضى الذي يحكم لبنان على كل الأصعدة يحد من قدرتك على الإنتاج. أم أن هذا الواقع يؤمن للكاتب والروائي مادة دسمة للكتابة عنها؟
شارك في السؤال: رنا محفوظ
هناك إزعاج عملي تقني، بمعنى انقطاع الكهرباء والماء. تعلمت أن آخذ قيلولتي على ظهر العاصفة. وأتصور أن كل لبناني اعتاد على ذلك للأسف. لا نستطيع أن نقاوم إلا في العتمة من دون كهرباء، ولا نستطيع أن نبلغ الحقيقة إلا في العتمة من دون كهرباء. هذه الفوضى لا تمنعني عن الكتابة. بالعكس، تستفزني. ولن أسمح لهذه الطبقة السياسية بأن تجبرني على ترك لبنان.
كونك كاتب لبناني يعيش في بلد تتحكم السياسة بحياته اليومية، ألا تعتقد إن من واجبك التطرق إلى هذا الموضوع؟ أم انك تعتقد أن ذلك قد يؤثر سلباً على الروائي؟
شارك في السؤال: فريد أبو الحسن
الكتابة السياسية لا تعني مواضيع انتخابية. المواضيع التي أتناولها تمس أو بالأحرى تطرح الأسئلة على المبادئ وعلى الأسس الأخلاقية. الأسس الأخلاقية تتحكم بالسياسة. السياسة عادة مبنية على مجموعة من القيم الأخلاقية. من هذا المنطلق، المواضيع التي أتناولها في رواياتي تطرح أسئلة عن الأسس التي تتحكم بالسياسة. على سبيل المثال، في روايتي “تصطفل مريل ستريب” مسائلة جدية للزواج المبني على تقسيم العمل التاريخي، وهو أساسي ويتحكم بالسياسة المتعلقة بالزواج، ويتحكم بالقوانين المتعلقة بالزواج. حسب القانون إذا رفضت المرأة الانصياع لرغبة زوجها أو متعته يحق له الطلاق منها.
بهذا المعنى أن لا أتكلم على السياسة، أو الانتخابات مثلا، ضد أو مع، بل اطرح أسئلة عن الأسس التي تتحكم بالسياسة وصناعة القوانين والدساتير.. إلخ. مثل آخر في روايتي “انسي السيارة”، الجنس نشاط إنساني وليس أخلاقياً، هذه مساءلة للقيمة السائدة التي تفيد بأن الجنس نشاط أخلاقي.
الكتابة في السياسة تتحول إلى نوع من البروباغندا، وتصبح أحيانا مثل الـ”توك شو”.
ألا تعتقد أن لبنان يحكمه شيء من الركود الثقافي والإنتاج الأدبي، خلافاً لما كان عليه الأمر سابقاً؟ وما هي برأيك الحلول للخروج من هذا الركود؟
شارك في السؤال: فريد أبو الحسن
لا أشاركك هذا التشاؤم. هناك نهضة في الرواية وفي الشعر وفي المسرح. مسرح “الجامعة اللبنانية الأميركية” على سبيل المثال ومسارح بيروت ناشطة رغم الصعوبات المادية. والسينما إلى حد ما رغم استحالة التمويل. نظن دائماً أن تاريخ الظواهر هو خط الواقع المختلف، فتاريخ الرواية مثلاً ليس خطاً، بمعنى أن رواية الغد لن تكون مشابهة لما نتوقعه اليوم، وقصيدة الغد لم نتوقعها اليوم. تاريخ الظواهر محكوم باللامتوقع. الأغنية اليوم مثلاً ليست كما توقعها الجيل السابق، لذلك يذمها الكثير من الناس، ولكن بعد سنوات سنرى أن فيها إبداعات رائعة. لذلك لا أرى سواداً في العملية الإبداعية. “إنا شخصياً لم أحب على وقع الجدبد من هذه الانتاجات، لم أشرب على الجدبد، وليست عندي ذكريات على الجديد”، لا وقت لي ولا مزاج، ولكنني أتكلم بالمفهوم العام.
هل تؤمن بمقولة إن إي شخص باستطاعته أن يكتب الرواية؟ وهل يؤثر ذلك سلباً أم إيجابا على واقع الرواية اللبنانية والعربية؟
شارك في السؤال: lamar assi
كل شخص يستطيع أن يكتب الرواية، شرط أن يسعى لذلك، أي أن تكون لديه الرغبة الفعلية وأن يبذل الجهد اللازم طبعاً. هذا لا يعني أن من أراد ومن سعى سيكون كنجيب محفوظ أو بشهرته، ولكن سيكون له لونه وحساسيته ومزاجه. كثرة الروائيين فيها فائدة، وليس فيها ضرر على الإطلاق. لأن في ذلك توسع لدائرة تأثير الرواية وتزيد من عدد القراء وتصنع نقاشاً أعمق وأوسع. ومن الكثرة قد تأتي النوعية.
هل لديك رواية مفضلة؟
شارك في السؤال: lamar assi
ليس عندي رواية مفضلة. هذا يذكرني بالتقليد القديم الذي كان يعتبر أن هناك أفضل بيت في الرثاء وفي الغزل وفي الفخر. الرواية كما ذكرت ليست خطاً، أو أن واحدة أفضل من أخرى. ليس هناك كرسي واحد تجلس عليه الرواية الأولى المفضلة. لكل لحظة روايتها، ولكل مزاج روايته، ولكل عمر روايته، ولكل فصل روايته. برأيي أن الإبداع الروائي لوحة ولكل رواية مكان في هذه اللوحة.
في مسألة الجوائز، وهنا أتكلم على الجوائز الجدية، ربما تعطى لمبدعين يستحقونها، ولكن خطرها أنها قد تحدد نموذجاً للرواية.
هل صحيح انك اخترت الكتابة بالصدفة بعد أن كانت لديك مشاريع أخرى بعيدة كل البعد عن كتاية الرواية؟
شارك في السؤال: lamar assi
لا أريد أن أقول بالصدفة، ولكن الحياة قادتني إلى ذلك. في الحقيقة كنت دائماً أكتب، وقد بدأت بالنشر مبكراً، ثم توقفت حوالى عقد كامل من الزمن. في أوائل العشرينات من عمري، نشرت قصتين قصيرتين في جريدة “الجريدة”، ونشرت شعراً في ملحق “النهار”. بعد أن أصبحت ماركسياً، توقفت عن النشر لأنني اعتقدت كالكثيرين من جيلي أننا لسنا بحاجة إلى الشعر بقدر ما نحن بحاجة إلى التنمية العلمية. إذاً توقفت عن النشر لكنني لم أتوقف عن الكتابة. كنت أكتب الشعر سراً ولا أظهره لأحد. في هذه الأثناء أنهيت الدكتوراه وكنت منشغلاً بالتعمق في الماركسية وبالنضال. ثم جاءت الحرب الأهلية، وبعدما استقرت وانهارت عندي المفاهيم التي كنت أرى فيها العالم، والتي كنت أفهم بواسطتها العالم، لم تعد المفاهيم السابقة تساعدني على فهم هذه الفوضى العظيمة وهذا الخواء. العامل يقتل العامل والمسيحي يقتل المسيحي والمسلم يقتل المسلم والفلسطيني يقتل اللبناني والعكس صحيح، والإسرائيلي والسوري والأميركي والروسي يقتلون الجميع. فوضى تشبه فوضى ما قبل الخلق، فوضى ما قبل أن يستقر العالم على شكل أو على هيئة. حينها قررت العودة صراحة إلى الأدب، لأنني رأيت فيها التعبير الوحيد القادر على محاكاة هذا الخواء وهذه الفوضى.
بعدما عجزت عندي المفاهيم السابقة عدت إلى الأدب والكتابة. بعد الانقطاع نشرت كتاباً شعرياً عنونته “حين حل السيف على الصيف” وأسميته كتاباً شعرياً وليس ديواناً شعرياً.
بما أنك خبير في شؤون وقائع الأحداث، كمراقب وكاتب وعامل.. ما الذي اكتشفته؟ هل هي وقائع فيزياء اجتماعية؟ أم وقائع فوضى عشوائية؟ وهل وظيفة الكاتب استنباط ما تٌخفيه الروح بما أن وظيفة العالم استنباط ما تخفيه المادة؟
شارك في السؤال: عباس الحاج أحمد
اعتقد أن العلم والأدب يلتقيان. فالاثنان نشاطان يهدفان إلى فهم الذات والعالم كلٌ بطريقته. العلوم لها طرقها في فهم مواضيعها والأنواع الأدبية لها طرقها أيضاً. من طرق الأدب، الحدس والتخييل واقتراح أنماط حياة أخرى. والاثنين يجتمعان عند الهدف. ثم ان العلم وهم في مكان والفنون وهم أيضا. بمعني أن الفنون تلبي حاجة ميتافيزيقية والعلوم تلبيها أيضا، لان الفنون هي التي تحدد فهمنا لذواتنا وللعالم. الفنون تحدد طبيعة وعينا، والعلوم فيها من الدين أيضاً، لأن الناس تعتقد أن فيها ذلك. الدين فن بما هو تصور هذا العالم، والأساطير أصبحت بشكل أو بآخر عقائد أيضا.