شكل الكاتب اللبناني رشيد الضعيف حالة خاصة بين كتاب الرواية اللبنانية والعربية علي حد سواء فهو كما تقول الناقدة العراقية فاطمة المحسن: أكثرهم ميلا إلي أسلوب التهكم والسخرية الذي يبدو في وجه من وجوهه وكأنه يستخف بأدبية القص حين يرفع الكلفة بينه وبين قارئه في اللغة وفي طرح الحدث وفي التعرض إلي مواضيع محرجة, فرواياته حتي تلك التي كتبها عن الحرب تتعامل مع الحدث علي أنه ملهاة لا تؤخذ بالجد الكافي,ودائما يبدو أبطاله متورطين في مصاعب يومية ولكن ورطتهم من النوع المسلي الذي يدل القارئ علي كواليس مجتمع في مرحلة انتقاله إلي تثبيت قيم معلقة بين الربح والخسارة,لذا تبدو اكتشافات أبطاله وكأنها فضائح جنسية وصفقات وورطات لا تنتهي.
لعل المحظور في الكلام هو ما يحاول رشيد الضعيف إلغاء منطقه وهكذا رشيد في معظم أعماله التي خلقت تواصلا مع الجيل الجديد من القراء وقد عرفه قراء الرواية في مصر علي نحو واسع مع نشر روايته الشهيرة’ عزيزي السيد كاواباتا’ في طبعة شعبية أصدرتها سلسلة آفاق الكتابة وقت أن كان يشرف عليها الكاتب الكبير إبراهيم أصلان وبفضل هذه الرواية بات الضعيف واحدا من الكتاب المعروفين في مصر والذين تطلب أعمالهم باستمرار وقد تابع القراء قراءة بقية أعماله ومنها’ المستبد’ وتصطفل ميريل استريب واخيرا’ روايته’ انسي السيارة’ وجميعها جاءت متتالية بعد فترة من توقف صاحبها عن كتابة الشعر وفي هذا الحديث الذي جاء علي هامش زيارة أخيرة قام بها الضعيف للقاهرة اخترنا البدء من أسباب التوقف عن كتابة الشعر والانتقال إلي كتابة الرواية فقال:’ نشرت مجموعتي الشعرية الأولي بتشجيع من البروفسور جمال الدين بن شيخ. ثم نشرت عملي الشعري الثاني الذي لا أعتبره عملا شعريا كاملا وإنما هو مجموعة من الأفكار والتأملات حملت عنوان’ لاشيء يفوق الوصف’ عام1981 وفي العام1995 نشرت آخر مجموعاتي الشعرية’ ثم بدأت تجربة كتابة الرواية وإلي الآن لا أدري لماذا تركت الشعر, ربما لأن هناك انتعشت بهواء عصر الرواية وربما لأني أشعر بأنني لم أعد جديرا بكتابة الشعر. هل كان الانتقال بعد أن أدركت ضرورة رصد تحولات المجتمع اللبناني بعد الحرب وهي عملية تبدو الرواية كفن هي الأقرب لإتمامها إبداعيا؟
- تستطيع أن تقول باطمئنان إنني لم أكتب أبدا عن الحرب وإنما كتبت عما عشته في الحرب وهذا يعني أن الحرب لم تكن موضوعا فأنا لاأعالج موضوعا بعينه وإنما أكتب بحرية لأنني أريد ذلك ولا أكتب ضد تراث أو تقليد أو مدرسة ولا تشغلني هذه اللافتات وأندهش عندما يقول ناقد إن فلانا يكتب ضد تراث الرواية العربية الكلاسيكية أنا علي سبيل المثال لا أكتب مشغولا بنظريات كبيرة أو للبرهنة علي خطأ أو صحة أي من تلك النظريات. وهل هذه الحرية تفسر انفتاح راوياتك علي أكثر من شكل فني وحوارها أو تفاعلها مع نصوص تراثية عديدة تتداخل فيها بقوة فيما يسمي بالتناص؟
- هذا صحيح ولكن هذه النصوص والعبارات تتداخل بشكل يصعب كشفه بحيث تبدو كجزء فاعل في النص وليس جزءا زخرفيا وعلي سبيل المثال روايتي الأخيرة’ أنسي السيارة’ فيها حدث يتناول مسألة دهن الرأس بالزيت وهذه المسألة موجودة في التراث العربي القديم كأسلوب من أساليب التعذيب واستعملت هذه الفكرة لخدمة مشروع الرواية وهناك وقائع كثيرة تلفت نظري في كتاب الأغاني وأود استخدامها أو استخدمتها بالفعل ولكن في رواية عزيزي السيد كاواباتاتمتد فكرة الحوار والتداخل الي حد التداخل مع نصوص الكاتب الياباني كاواباتا الذي يبدو حاضرا في النص بقوة؟ - أنا اعتبر عزيزي السيد كاواباتا كتاب الخيبة الكبري كنا نظن أننا نصنع التاريخ فاكتشفنا أننا لم نكن أكثر من أدوات له وهذا الاكتشاف كان خيبة كبري لأنه جاء بعد عمر عشناه تحت لافتة الرغبة في تغيير التاريخ وكأنه مجموعة إرادات فردية وإذ بنا نجده كائنا خرافيا يسعي وحده ولكن عبرنا نحن الأفراد وأسفت لأنني وجدت نفسي في نهاية هذا العمر ليس أكثر من كائن مهمل وكان هذا الكتاب بمعني من المعاني يتأمل تجربتي في الحرب اللبنانية التي دخلناها تحت رغبة بناء وطن وتحقيق حلم العدالة والاشتراكية ومقاومة إسرائيل وإذا بنا نكتشف أننا دمرنا هذا الوطن وأضعنا الحلم. هل هي خيبة اليسار اللبناني الذي كنت في صفوفه؟
- ليست خيبة اليسار بل هي خيبتي الشخصية وأنا لست ناطقا باسم أحد وكلامي لا يلزم أحدا وأردت في هذا الكتاب الذي أشرت اليه أن أبوح بخيبتي لشخص قريب ولم أجد الا كاواباتا الذي كنت قد انتهيت من قراءتي له فوجدت في أعماله هذا الحديث الذي مس همومي عن الوطن والشيخوخة والزمن وجدل القديم والجديد في المجتمع الياباني وهي قضية كانت تشغلني علي مستوي الثقافة العربية ثم لفت نظري مسألة انتحاره التي كانت دون قضية ووقتها كانت الحرب اللبنانية قد خلقت للأسف حالة من حالات التضخم في’ الشهادة’ وهذا القول ليس جميلا مني ولكن الواقع أنه كان هناك سعي مجاني نحو الاستشهاد من جميع التيارات والطوائف وانزعجت من هذا الانشداد المجاني للموت من أجل قضية وأغراني في كاواباتا انتحاره من أجل لا شيء وانشداده للعدم. وهل هذا الذي أغراك للانتقال من عطب المجتمع الي عطب الذات والعكس كما في روايتك الأخيرة’ انسي السيارة’ التي تنطلق من حدث عادي عن شخص يشتري سيارة ثم يكتشف انها معطوبة وتنتقل الرواية بالقارئ من عطب السيارة الي عطب المجتمع ككل؟
– الآن أصبحت أؤمن بأنه كلما أوغلت في التكلم عن نفسك أضأت محيطك الاجتماعي وأعتقد أن ثنائية الفرد والمجتع ليست صلبة إلي هذا الحد الذي يتكلمون عنه. ننتقل إلي مسألة أخري حاضرة في رواياتك بقوة وهي المسألة الجنسية التي شغلت نقادك وقراءك علي السواء واسمح لي أن أسألك عن وظيفة الجنس في أعمالك؟ - قلت إنني لا أكتب عن موضوع ولذلك لا أعتبر نفسي أكتب عن الجنس وعندما أتناوله يبدو كجزء من الحياة ولاشك أن في كتاباتي شيئا يزعج القراء ويصدم قناعاتهم لأنني لا أفصل بين الجنس والحب فالجنس ممارسة إنسانية وليست أخلاقية وهذا قد يصدم القاريء الذي تعود علي الجمالية الرومانسية كجمالية سائدة تحكم ذوقنا ولكن علينا البحث عن جماليات أخري والنثر العربي حافل بهذه الجماليات. وهل يجوز القول إنك تغلف هذه الجرأة بنبرة ساخرة هدفها التهكم علي الذوق السائد والرومانسية المدرسية إن جاز التعبير خاصة في رواية’ تصطفل ميريل استريب’ ؟ - يجوز هذا قد حدث في هذه الرواية بالذات التي تقدم نموذجين للمرأة التي تملك لغة تنتمي إلي المدينة غير رومانسية والزوج الذي لديه مفاهيم رومانسية ساذجة ومدرسية وجعلت للمرأة في الرواية بلاغة مختلفة وللرجل بلاغة محافظة وصنعت صداما بين البلاغتين. أتذكر في هذا السياق مقالا للناقدة العراقية فاطمة المحسن حول روايتك الأخيرة’ انسي السيارة’ قالت فيه إنك تلجأ إلي نوع من’ الأيروتيكا الشعبية’ حين تسمي الأشياء بمسمياتها بما في ذلك الأعضاء الجنسية؟ - لقد تعلمت ذلك من التراث العربي الموجود في كتب الأغاني ومؤلفات النفزاوي وجلال الدين السيوطي وفي الإمتاع والمؤانسة وكلها كتب تؤكد أن العالم جميل وفرح وهناك فرق بين المشاعر وبين الجنس كممارسة إنسانية ويجوز الربط بينهما ولكن هذا ليس صفة إنسانية علي الإطلاق وشخصيات’ انسي السيارة’ يتعاملون مع الجنس كموضوع إنساني وهم بدون أخلاق ولكنهم ليسوا ضد الأخلاق ولكن أي نوع من الأخلاق؟! هناك كتابات نقدية انتقدت كذلك صورة الأب في نفس الرواية وتكلموا عن فرويدية معكوسة حيث يمارس الابن الجنس مع السيدة التي اختارها الأب زوجة له وهناك إشارات إلي تأثرك الواضح بالصورة التي قدمها سهيل إدريس لوالده في سيرته الذاتية الذي ذكرته صراحة وهل كنت تقصد تحطيم صورة الأب التقليدية؟ - لا أعتقد ذلك إطلاقا ولكنني أود أن أقول لك إنني أود كتابة رواية بدون معني وهذا شيء أساسي بالنسبة لي وأقصد بذلك ألا تنطوي علي أي سياقات فلسفية وأحاول أن أضع رواياتي خارج هذه السياقات وأريد أن أكتب من أجل أن يتمتع القاريء ونبراسي في ذلك’ ألف ليلة وليلة’ التي اعتبرها أجمل الكتب في العالم لأنه كتب خارج المعاني والنضالات وهذا سر خلوده وعندما أقول رواية بدون معني هذا لا يعني أنها رواية تافهة لأن هناك قارئا سيجد فيها معني يريده ويبحث عنه. وهل تعتبر سعيك إلي كتابة ممتعة سرا من اسرار انتشارك بين القراء من الجيل الجديد في لبنان وفي خارجه وهل تعتقد أن هذا الجيل يقرأ روايتك قراءة صحيحة خارج مساعيهم إلي قراءة روايات تنظوي علي جرأة في تناولها للجنس؟ أكيد أنا سعيد لوصولي إلي هذه الشريحة المتهمة بأنها لا تقرأ وهذا دليل علي أن هذا الجيل في حاجة إلي من يكتب ويكسر الفجوة بين الكاتب والقاريء والمؤسف أننا نضع الحق دائما علي القاريء أو الأمة أو الأنظمة دون أن نحمل الكاتب المسئولية في انصراف الناس عن القراءة وهناك كتاب مغرمون بالابتعاد عن القراء لأنهم يكتبون بوقار زائد وأنا أسعي لأكتب ببساطة خالية من بلاغة تعقد الأمور ولكني أعود مرة أخري إلي ألف ليلة وليلة فهو كتاب ممتع وجريء وخارق ولذلك هناك أكثر من مستوي في قراءته وهناك من يقرأه للتسلية أو البحث عن الجنس وهناك من يقرأه لغير ذلك, والمتعة كما أراها أمرا جديا وإجمالا لا أعتتقد أن الجنس من أسباب نجاح عمل أدبي وكتابتي عن الجنس وظائفية لأنني أعتقد أن الصدام التاريخي بين الرجل والمرأة يعبر عن نفسه في اللحظة التي تجمع بينهما في فراش وهي لحظة الوصال المكثفة التي تتكثف فيها الحياة وأتكلم عنها لأنها لحظة الحياة لا لكي أثير الغرائز وماذا أفعل مع القاريء الذي يثار حتي من رؤية الملائكة ولما لا أكتب من أجل الإثارة وهذا شيء جميل ويوميا نقرأ عن أشخاص يدفعون ثرواتهم وأعمارهم من أجل لحظة إثارة أو متعة وحين يستطيع كاتب مثلي إثارة الغرائز فهذا جميل لأنه سمح لبعض الناس أن يشعروا بأنهم حقا أحياء.. لكن البعض يعترض علي هذا المنطق ويري في وجود هذه الكتب خطرا علي الاخلاق العامة وعلي الشباب بالذات؟ - ليس كل كتاب يمكن لكل الناس أن يقرأوه والكتاب ليس مشاعا فهو ليس كالهواء يمكن للجميع تنفسه والكتاب يمكن أن يعامل معاملة خاصة ويبقي بعيدا عمن هم أقل في العمر. هل أفهم من ذلك أنك مع هذا التقسيم الذي تخلقه لافتة للكبار فقط ؟
- طبعا فليس كل كتاب صالح للقراءة ويجب أن نفهم ذلك لا بمطنق أخلاقي وإنما بمنطق تربوي