تتويجاً لعالمه الروائي الذي بناه منذ إصداره رواية “المستبد” سنة 1983، حاز الكاتب الرّوائي اللبناني رشيد الضّعيف جائزة “محمد زفزاف للرواية العربية” في دورتها الثامنة، التي انعقدت هذه المرة على هامش الدورة 44 من موسم أصيلة الثقافي الدولي، في محاولة لإنصاف تجربة روائية غنية ومتفرّدة امتدت لأربعة عقود ونيف، وطرقت المُهمّش والمسكوت عنه واللاّمفكّر فيه.
وقبل أن يسلمه محمد بنعيسى، الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، ترأس الناقد والأكاديمي المغربي شرف الدين ماجدولين، منسق الجائزة، حفلاً منحَ لأعضاء لجنة التحكيم، التي اهتدت إلى تتويج الرجل بهذه الجائزة، فرصة قول كلمة في حق هذا المسار، الذي سمح للضعيف بأن ينضاف إلى خانة جائزة مغربية خالصة، حازها عبقريّ الرواية العربية السوداني الطيب صالح، ومبدع “المجوس” إبراهيم الكوني، وأيضا مبارك ربيع وحنا مينة وسحر خليفة وحسونة المصباحي وأحمد المديني.
وبعدما هنّأ الأكاديمي والباحث المغربي سعيد بنكراد كلاّ “من المحتفى به اليوم، والمحتفى به بأن سّميت باسمه، أي محمد زفزاف”، قال إنه “في الأدبيات السّردية تُعتبر الكتابة الروائية بمثابة بناء عالم ما، والكلمات تأتي بعد ذلك طيعة، لكن هذا الإتيان بهذه الكلمات هو ما كان رشيد الضعيف متمكنا منه بشكل كبير جداً، من حيثُ قدرته كروائي على الاحتفاء بالتّفاصيل والنتوءات، والربط بين القضايا الكبرى ومكنوناتها الصغيرة”.
وأضاف بنكراد، عضو لجنة التحكيم التي يترأسها الأكاديمي سعيد يقطين، “مبدئيا، يبدو أن القضايا الكبرى ينبغي أن تتسرب إلى التفاصيل لكي تصبح كبيرة، والذي لا يستطيع أن يلتقط تفاصيل الناس لا يمكن أبدا أن يتبنى قضايا كبيرة جدا”، مبرزا أن “رشيد الضعيف، من خلال العالم الذي بناه، كان يبدو أكثر قدرة على استشراف ما يوده الناس في معيشهم اليوميّ وفي الأحلام، ولذلك كان هناك ما يشبهُ الإجماع على أنه يستحقّ هذه الجائزة”.
من جهتها، أفادت كاتيا غصن، ناقدة لبنانيّة ومُترجمة وأستاذة للتعليم العالي بجامعة باريس، أن “الروائي القدير رشيد الضعيف يشكل صوتاً متميّزاً على مستوى الساحة الأدبيّة العربية واللبنانيّة”، مشيرة إلى أن “مشواره الروائي طويل وغزير وله أوجه متعددة، فقد استمد كتابته من عناصر الرواية التاريخية في بعض أعماله، وكان من أبرز كُتاب الروايات التي تحاكي الحرب الأهلية اللبنانية وخاض في الرّواية السير-ذاتية وانتقل إلى الرّواية الميثولوجيّة”.
وأفادت عضو لجنة التحكيم أن “لكتابات الرّجل خصائص عديدة، الأولى أنّه يتعمّد ألاّ يدخل الرواية من باب سرديات وقضايا وطنية كبرى، لكن هذا لم يعن بالمطلق أنه لم يكن معنيا بها، حيث من خلالها عبر عن الذات اللبنانية، التي هي في الوقت نفسه تمثل الذات الجماعية العربية”، مؤكدة أن “لغته منحونة مصقولة تبتعد كل البعد عن البلاغة والشرح وكل أسلوب طنان رنان، وهو يرقى، في الآن ذاته، باللغة إلى فن متعدد الأبعاد، لذلك هي تتميز بما يسمى بالسهل الممتنع”.
وبعدما انتهت غصن من كلمتها، عاد عضو لجنة التحكيم، حبيب عبد الرب سروري، إلى ما يشبه كواليس اختيار لجنة التحكيم للضّعيف، حيث أكد ابتداءً “على استحقاق المتوج”، نظرا لكون “الاجتماعات بين أعضاء اللجنة كانت متسمة بالشفافية والجودة”، بينما ذهب بعده عضو لجنة التحكيم، حسن بحراوي، إلى ذكريات تتويج نجيب محفوظ بجائزة نوبل، وكيف احتفى المثقفون المغاربة بذلك الخبر، و”هو ما يدفع إلى الفخر بأن تكون لدينا جائزة باسم الروائي المغربي والقاص محمد زفزاف”.
ما صرّح به بنكراد بأن “هناك شبه إجماع على أحقية الضعيف للجائزة”، أكده الروائي التونسي شكري المبخوت، مشيرا إلى أن هذه الجائزة “جاءت لتتوج أربعين عاما على الأقل من الكتابة السردية بنسق حثيث، لأنه كان يصدر رواية كل سنتين، ومن حسن حظي أنني قرأت جميع رواياته إلا الرواية التي لم تصدر بعد”. وأوضح أن “كتابات الضعيف تقدمُ بلاغة جديدة لا بد من الانتباه إلى ميزتها، فهي تستمع إلى مسائل تتصل بالإنسان في حياته اليومية؛ وهذا دور الرواية أن تقول لنا وجودنا وحياتنا اليومية بطريقة فنية وإبداعية”.
وفيما يشبه “خطاب الجائزة”، قال رشيد الضعيف في كلمته الختامية بعد تتويجه رسميّا: “أريد أن أنتهز هذه المناسبة لأقول إن الممارسة السائدة في الرواية والسينما والمسرح تعتقد أنّ الفنّ يجب أن يكون في خدمة الحقيقة. والحقيقة قد تكون قضيّة الطبقة العاملة أو قضيّة الأمّة أو قضيّة المرأة أو إلخ… وهذا هو معنى القول السائد: “الفنّ صورة عن الواقع”، الذي يتردد في النقد عامةً، والنقد المدرسي بخاصة”.
وتابع قائلا: “لكن الرواية، كما أراها، فنّ وصولي؛ لذلك سعيتُ دائماً إلى توظيف ما اعتدنا على تسميته “الواقع” أو “الحقيقة”، حيث أستطيع استعمالهما في خدمة الرواية وليس العكس. الواقع عندي يجب أن يكون في خدمة الرواية وليس العكس. كلّ شيء في خدمة الرواية”.
ومضى شارحا “أجملُ الشعر أكذبه. والكذب هنا، أي في مجال الفنون، هو تجاوز “الواقع”، هو بكلمة أخرى الخيال. والخيال هنا هو الحرية، هو التحرّر من منطق “الواقع” وسياقاته، ومن المفاهيم السائدة فيه. وحين نكتب بحرية نتحرّر من ثقل الموروث، وتذهب كتابتنا إلى قلب الحقيقة، إلى ما هو إنساني. حينذاك تكون الفنون مشاركة للعلوم في إنتاج المعرفة، المعرفة بالذات والمعرفة بالعالم. أظنّ أنّ هذه حالُ الأعمال الإبداعيّة في أنواع الفنون كافَّةً”.