أول إسقاط يقوم به القارئ العربي عموما بعد قراءته لنص روائي هو اعتبار بطل العمل الكاتب نفسه، ومهما أضافت مخيلته من عناصر لإبعاد نصه عن هذه القراءة السطحية إلاّ أنه لا ينجح في ذلك، تلاحقه تلك التهمة في أحاديث المقاهي والجلسات الخاصة إن لم يواجه بها علنا في ندوات أو في مقالات سرعان ما تؤثر في مصير الرواية فتصبح جزءا من سيرته الذاتية، ظاهرة يكاد العرب ينفردون بها، ربما لأن نصوصنا تعالج في الغالب واقعنا المعاش، واقع “الآن” أو “اللحظة”، وقلّما نجد كاتبا يخرج من لون روائي إلى لون آخر بسهولة، رغم النقد السلبي والانتقاد اللاذع الذي قد يتعرّض له، ذلك أنّه من الصعب أن يخلع الكاتب أسلوبه وأفكاره ونمط تفكيره ويغيرها جميعها لمسايرة قارئ يريد فرض سلطته عليه.
لكن الكاتب اللبناني رشيد الضعيف في منجزه الروائي الأخير “الأميرة والخاتم” إصدار دار الساقي يفاجئنا أيّما مفاجأة، فقد فتح أبواب الزمن المعاصر وخرج منها إلى أزمان أخرى، حيث العجائب والأحلام والأمور السحرية ممكنة الحدوث، ارتدى عباءة لم نعهده بها، وسافر بنا إلى بلاد بعيدة في الزمان والمكان..
للوهلة الأولى سنقول هذا ليس رشيد الضعيف، هذا ساحر..!
لماذا قرر هذا الكاتب المثير للجدل أن يدخلنا في عالم خرافي بعد أن جعلنا نقتنع أن فضاء مخيلته وأسلحته الأدبية مسيّجة بقضبان واقعنا المعاش؟.
لقد بنى عالما كاملا مؤثثا بكل أدوات الدهشة والذهول، أميرات ذكيات، أمراء وملوك ذوو حكمة، فضاءات لا تشبه ما نعرفه لا في الماضي ولا في الحاضر، نسيج لغوي غير مألوف، ربط بين أحداث مُشوِّقة لا تخلو من الكثير من الفلسفة، أعاد إلى ذاكرتنا كانديد لفولتير، من حيث الأسئلة التي أثارها بشأن القيم الإنسانية كلها، ومن حيث خطّها التفاؤلي الذي التزمت به شخصيات الرواية، وأخرج من قبعته السحرية ساندريلا بحكاية مغايرة، ونعلا لا ترتديه هي بل رجلها المنتظر، وكمّا هائلا من الحكايات التي تتقاطع مع قراءاتنا القديمة حين كنّا أطفالا، تجتمع في أسطورته الغريبة شخصيات كأننا التقيناها في ألف ليلة وليلة، أو عند الأخوين غريم، أو عند هانز كريستيان أندرسون، ولكنها ليست هي تماما، إنّها مجرّد تقاطعات مترسبة في الذاكرة دون اكتمال، لنقل إنّ لعبة رشيد الضعيف مُتقنة على طريقته، فهذا نص يمكن وصفه بالتّحدي الناجح، أو ربما المُبهر، لم يتقصّده الكاتب على عادته، فلطالما مارس الكتابة لأسباب شخصية محضة، يجهلها المشيدون بأدبه ومهاجموه سواء.
لكن من المفارقات العجيبة أن رواية الأميرة والخاتم صدرت في ظروف مشابهة تماما للظرف الذي شهد صدور كانديد لفولتير منتصف القرن الثامن عشر، زمن صعب سادته الأوبئة والحروب، منتشلة الخائف من خوفه، والمهزوم من هزيمته، والمحتضر من سكرات الموت.