يعود في عمله الجديد «هرة سيكيريدا» (دار الساقي) إلى الحرب الأهلية. رواية بلحن جنائزي رقيق تلملم تشظّيات الكاتب في لعبة «بازل» لا تؤلف نهاياتها إلا على الإخفاق واستحالة العيش في بيروت المدينة الكوسموبوليتية القديمة
لا علاقة لرواية رشيد الضعيف بالسيولة في عالم الرواية. كل ثلاث سنوات، رواية. لن يبني هذا مدينة هائلة من الروايات. غير أنه بنى رواية لم يلبث عدد سكانها أن ازداد خلال فترة قياسية. «هرة سيكيريدا» (دار الساقي ــ 2013) ليست الرواية الأولى ولا الأخيرة. كتب رشيد الضعيف (1945) الكثير من الروايات خلال عشرات السنوات: «انسي السيارة» و«معبد في بغداد» و«عزيزي السيد كواباتا»… الترجمات وحدها لا تؤكد نجاح الرابط العضوي بين الروائي وسياقات عيشه، مادة شغله الأولى. ذلك أنّ روايته رواية سياق أولاً. ثم إنّها رواية شبكات قراءة، لأنّ رواية الضعيف تغادر ترددات الأناشيد الماركسية، بعد تجربة طويلة أفضت به إلى التلبس بالخوف والريبة، بحيث باتت الأصوات الخفيضة فضاءه المتحرك تحت خيمة حذره الشديد… حقيقته وخدعته في آن. نأت الرواية عن التأثيرات الفكرية وحرّرت نفسها منها. هكذا هي روايات الضعيف المتفجرة بمختلف الأحداث التي تشكّل إيقاع حياته.
لن يهدأ المستريب الدائم أمام المعاني الخاصة للكتابة المعاصرة. اللافت أن الروائي يمتلك ملكة السفر من بيروت الحرب الأهلية إلى العصر العباسي، ومن أجواء التزمّت إلى أقصى التحرر بالكلام عن المثلية أو العلاقة المصطنعة غير الناجزة بين زوجين متناقضين كما في «تصطفل ميريل ستريب». لا شيء في رواية رشيد الضعيف، سوى رشيد الضعيف. هواجسه وظنونه واحتمالات الحياة في احتمالات القوة الإيحائية للكتابة الروائية. يسلك الضعيف مسالكه بعيداً من التأثيرات المباشرة للآخرين على روايته. لا جويس ولا فوكنر ولا فيرجينيا وولف ولا أدب الرحلات. رواياته ترسم المخططات النهائية لحياته. لذا، عاد في «هرة سيكيريدا» إلى الحرب الأهلية، لأنّها الأمثل في لملمة تشظياته في لعبة «بازل» لا تؤلف نهاياتها إلا على الإخفاق واستحالة العيش في بيروت المدينة الكوسموبوليتية القديمة. موضوع جديد في مساحة الحرب. لا شيء سوى الخوف والتمزق وتفتت الحياة الاجتماعية، تحت ثقل الحرب وحتمياتها.
لا يروي جديد رشيد الضعيف حكاية رضوان ابن الخادمة سيكيريدا ولا حكاية أديبة المرأة الشيعية التي تبنّت «ابن العشرين» (العشرون رجلاً) ولا حكاية أمل المعوقة، وأم أمل الصيدلانية المتروكة من زوجها، ولا حكاية الخادمة الأثيوبية وحدها. يروي حكاية الانضواء الكلي في حياة المدينة المتداعية. صار سكانها يعملون بقواهم الذاتية، تحت مظلة مجتمع يتفكك. ينحت رشيد الضعيف شخصياته ذات العراضات الفكرية تحت سقف المدينة الحائرة أمام الهويات الجديدة المستقرة وسطها. يطرح أسئلة الهوية في الرواية، ببنائها على وقائع معيشة. لا معروضات في «هرة سيكيريدا» بل وقائع. رواية واقع، تشكك في الواقع لأسباب وجيهة لدى الراوي. تتداخل التفاصيل من العلاقات غير الشرعية المشرعنة بالزيجات القطعية إلى الاشتباكات الداخلية والهجرة والإعاقة والعمالة الأجنبية وحضورها غير المدرك التأثير، تماماً، من اللبنانيين. القلق، الهرب، الانفتاح، الانغلاق، الإنسانية وما هو ضدها، الخطف، المبادلة، التصفيات. فوضى روائية من فوضى الحرب. لا ضرورة بعد إلى تخصيص حدث إلا بالتجريب، على لوحة يقبع اللبنانيون على صفحتها كالغرباء وهم يتحولون إلى جزء من عجيج إنساني. اهتمام سيكيريدا بالهرة، إشارة إلى ميل، لا زاوية بناء. زوايا البناء في المطارح الأخرى، حيث يحضر الضعيف في نمط آخر في الرواية الجديدة. هذا من مزاياه. الميزة الأخرى، ميزة الشاعر في تخليص الرواية من الشعر. هذا محرك الضعيف الأجود، في كيمياء الرواية الهاربة من كل ما هو صناعي ومصطنع في رواية شقية، لا يبشمها مخاض الموت الدائم. ذلك أنّ كل من في الرواية، ميت وحي معاً. الولد حي لدى ابنته وميت في مغتربه. رضوان ميت وغير ميت لأن الرواية لا تؤكد موته. أمل، حية الأحاسيس وميتة الجسد. الأم حية الجسد وميتة الأحاسيس. تختبر ذلك بفشلها في إقامتها علاقة جماع بزوجها في رحلته الأخيرة إلى بيروت. أديبة حية في مملكتها الصغرى وميتة في ابتعاد أولادها عنها. العامل الميت بضربة الشباك تحت نافذة أديبة حي في الوصية المتروكة، بحيث تمتلك زوجة القتيل عبرها بيت أديبة، بعد موت الأخيرة، كتعويض متأخر عن موت الزوج الذائب موته في خضم الحرب. إنها عدوى الشيطان، تصيب المدينة وناسها، في تسلسلات مقطعية. كل مقطع يستدعي ما بعده، بحسب التزام زمني، يتوخى تدرج القفلات الأساسية في لغة مصفاة من البلاغة والإنشاء.
كل ما في الرواية ليس سوى أطراف مبتورة يابسة. كل ما في الرواية يخترق الرئة، باتخاذ الإنسان الإنسان الآخر أخاً أو زوجاً أو عشيقاً أو ابناً، بصورة جيفة أثيرة. لا رسل في الرواية ولا هالات رسولية. لا شيء سوى الموت المتحجر على زوايا الحياة المؤقتة البائدة. إنّها الكلمة العليا للحرب. الحرب دائماً، لأنها لا تخضع لتصميم. الرواية تصمم الحرب أو تعيد تصميمها. لا يزال رشيد الضعيف يتطهر من الحرب برواية سير الحرب في سيرة عريضة. ذلك أن نصوصه نصوص حرب، ونصوص الحرب على الحرب. يروي الضعيف كي لا يموت في الحرب بعدما أماتته الحرب. لا يهرب من نموذج الخطيئة. يواجهه من دون تبرئة ولا أعذار. الرواية حيلته في ذلك. الرواية حيلته إلى ذلك. الرواية مشغله. رواية بلحن جنائزي رقيق.