أن ينقلك عنوان رواية إلى تلك الأمكنة المحمّلة بالميثولوجيا والانتصار على الزمن، فأنت تقرأ رواية «الأميرة والخاتم» (دار الساقي ـ 2020) لرشيد الضعيف (1945)، الذي ذهب في اتجاه التخييل الحكائي والفانتازيا بعد ثلاث مجموعات شعرية، كانت مكانه الأول قبل أن ينخرط في عالم الحكي، و17 رواية «تآمر فيها على الواقع وعلى التاريخ» كما يحب أن يصف كتاباته الروائية، إنه هنا يتآمر على الزمن نفسه، فيحرّكه كما يحلو لخياله بخيوط كتانية تعيدنا إلى حكايات ذلك الزمن البعيد «قبل أن تتعدّد السماء التي كانت واحدة».
لا يبحث «الماركسي القديم» عن وجع جديد على هذه الأرض ليكتب عنه. لا يكترث لهذا الكوكب، يكتب الأسطورة كأنه ينسلّ من هذا العالم وممرّاته المظلمة. بحث الضعيف على مدى أربعين عاماً في الحرب والحب والجنس والعلاقات غير المثالية. كتب عن قلق الأرض وشقائها بلغة شقيّة لا ترحم. يريد هذه الرواية كتعويض عن الموت فوق التراب الذي دوّنه كشريط سينمائي على بَكَرة واسعة تحدّق فيك وتتحسّس داخلك وتكشف ما تمّ دفنه. في هذه الرواية، يحكي صاحب «تقنيات البؤس» عن الملكة التي ستحمل لثلاث سنوات، ولمّا تضع ابنتها ستُصاب بمرض عُضال، وتعزم مراراً على الانتحار بسبب الأوجاع المتزايدة، لكنها ستعدل عن ذلك «لأنها اعتبرت أن اللحظة الواحدة التي تعيشها مع ابنتها تستحق تحمّل العذاب الذي لا يُحتمل».
هكذا يعود الضعيف إلى الأرض لتأريخ العلاقة بين الأم وأبنائها، متجاوزاً ما تهدمه بعض المؤسسات الدينية في واقعنا المؤلم. عندما بلغت الأميرة السادسة عشرة، توفّيت الملكة وكان على الأميرة أن تجول في المملكة وترى زوجاً يناسبها، «لكن الأميرة لم تجد ما يلبّي رغبتها». استخدم الضعيف الغيب ليرسل للأميرة هدهداً في منامها ليحملها إلى مكان «لا يُسمع فيه صوت ولا يُرى فيه نور». سيعبر طيف النبي يوسف ومناماته، حيث تكون أحلام الأميرة رؤى، ويفسّر حكماء القصر المنام أنّ على الأميرة أن تنام خارج الزمان كي لا يشيخ جسدها حتى تجد مخلّصها الأبدي، وأنّ خشب سريرها يجب أن يُقطع من شجرة نادرة لا تكسرها عاصفة ولا تحرقها نار، ويجب أن يُصنع منه خاتم الأميرة الذي ستهديه إلى حبيبها.
سننصت كلّنا إلى الزمن، مع الملك وحاشيته والنسوة الخائفات عليها، ونحن ننتظر ما سيحلّ بالأميرة التي ستظلّ نائمة حتى يأتي الرجل الذي سيختاره الزمان «من جنس آخر لا يعرف الموت ولا الحياة». ولن ينسى الضعيف أن يُسقط ما أمكن من زماننا، «في كل العصور، خلال غفوة الأميرة، يسود شعور بالانزعاج عند الشابات بأنهنّ يُقدن إلى الزواج دون أن يُسمح لهنّ بالانتظار، حتى يتأنّين بالاختيار، لعلّ الفارس يترجّل من حصانه…» ثمة إسقاطات من زمننا الموغل في الظلم، وتصير الحكاية صورة تذكارية عن مجتمعات تفعل ذلك بفتياتها، من دون التفكير بمصائرهن؛ صورة ليست بالأبيض والأسود بل متجدّدة، وتحتاج عصوراً أخرى لتزيل بقع الصدأ عنها.
لا يكتفي الضعيف بالعودة إلى الميثولوجيا، وكتب تفسير الأحلام وأدب الرحلات والقيافة، بل يلتفت إلى كتب الأديان التوحيدية، فينهل من روح الشخصيات المقدّسة وبصماتها. بعد قرون من النوم ورحلات شاقّة تتقاطع مع أحداث ومعانٍ فلسفية، تصل الأميرة إلى أرض فلسطين، حيث أبلغها الغيب بوجود رجل «تترك قدمه حيث تطأ أثراً ينبت عليه عشب أخضر»، فتخبرها امرأة من أهل القيافة على أنه «في فلسطين الآن رجل شاب يدعونه السيد المعلّم، وأنه يبشّر بانتهاء ما العالم عليه»، وتدلّها على آثار قدميه… ولمّا تراه، ستشعر الأميرة أنها «تحرّرت من وطأة الأرض، وانتقلت إلى المطلق». سيكتب رشيد الضعيف هذه الكلمات كنوع من الاعتراف بأساه الداخلي وبحثه عن المثالية والكمال.
إثر صدور الرواية، كتب صاحب «ناحية البراءة» على صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي: «هذه الرواية، ليست عن اللبناني الذي لم يجد مهرباً من أن يرمي جثّة طفله في البحر، والذي ركب البحر سراً، مع آخرين يائسين، باحثين عن بلد يستضيفهم، فتاهوا، ومات منهم من مات. وهي ليست عن العقليّة التي حوّل بها اللبنانيّون أنفسهم إلى مستَعطين، ولا عن السياسيين المستَحضَرين من قرون الجهل والكَيد والغباء. هذه الرواية هي حكاية عن الأميرة المتمسّكة بحلمها المستحيل، وليست عن الأطفال الذين ذُبحوا في انفجار الرابع من آب. إنّ هذه الرواية هي ردّ بليغ على بحر القبح الذي نختنق فيه. بل هي الردّ الوحيد الممكن الآن. الأسطورة تحمي من الصقيع». قد تكون كلمات الضعيف هي الردّ على تساؤلاتنا، لماذا يكتب روائي حداثي وعصري، توغّل في كشف الخرائط النفسية والاجتماعية لمجتمعاتنا، رواية بريئة خيالية متشابكة مع التراث القديم والأسطورة والكتب الروحانية وغير متورّطة في عتماتنا وسرديّاتنا الموجعة. رواية حضر فيها الزمان والغيب و«العتمة التي ليست مادّة الليل»، وحضر فيها أيضاً ميلان كونديرا وهو يقول: «الروايات تمنحنا فرصة للهروب الخيالي وتقتلعنا من حياة لم تكن تمنحنا أي إحساس بالرضى».