لا عُمْرَ يكفيني لأحلم مرتين، فعمري شطران صدر يؤرّقه حُلُمي المزعج، وعَجُزُه حتمية يكلّلها واقع جميل. ولِحُلُمي بابان، باب خلفه أنا، وآخر خلفه أنت، فزمن المجازات لم يعثر على ملك، فأشعل الرمز حتى يبتكِرَك، فقدري قد شاء، ولم يشأ قدرك، وحدسي يلّح ولا أدرك خبرك، ويلوّح جمالك باليقين ولا أرى أثرك، يوحي إلي لطفُك بطهر الملائكة، في الحلم رأيتك خرافة لكنّني وقفت عند باب الأساطير و أدركت أخيرا أنّكِ إلهة العفّة والجمال، فطالما عايشت الأحلام وخِفت الخرافات وأجِدُني في النّهاية لا أتحمّل سوى الحقيقة. فقد أنضجتني الحياة على جذوة من نار الألم.
بين الأسطورة والسرد وشائج قربي، فقد اعتبر بعض المحلّلين أن السرد قد انبثق عن الأسطورة في البناء الأنطولوجي والصورة الأصلية التي تعبر عن ارتباط الإنسان بالواقع و الحياة. و لقد اعتبر فلاسفة اليونان أن الأسطورة هي الحقيقة في صورتها الرّمزية وعلي الساردين والرواة أن يرفعوا الحجاب عن هذه الحقيقة الرّمزية، فكأنّ الأسطورة تخفي الحقيقة وتأتي الرّواية لإظهارها. فالأدب والأسطورة يتداخلان، وقد يتبادلان الأدوار ببعض التحفّظ في لعبة الدخول إلى دائرة المقدس أو الخروج منها، لماذا يختلط الواقعي بالأسطوري في الأدب العربي الحديث والمعاصر؟ وما الذي يدفع الأدباء والكتاب إلى استدعاء الرموز الاسطورية في مختلف فنونهم التعبيرية (الشعر والمسرح والقصة والرواية والتاريخ والجغرافيا والدين والفلسفة وكل شيء تقريبا؟ هل لعجز الحاضر عن إشباع إلحاح اللحظة أم للطاقة الإبداعية السحرية التي تحتويها الرموز الاسطورية في كل زمان ومكان؟ ذلك هو السؤال المحوري الذي جعلني أتوجّه بقراءتي إلى هذا النّمط من الروايات، وإنّنا ضمن هذا السياق أمام عمل أدبي متكامل الأركان، رواية هي لعبة تخييل ممتع جمع بين الأسطورة والخرافة والفانتازيا التي تتماهى في ثوب تراجيدي كي يرمي بأنظارنا لنرى وجها آخر للظل، قابع في محراب العجائبية، وضفّة أخرى من الضلال الذي أنشأته قسوة العرف القبلية. يرى صاحب الرواية أنّ إقحام الخيال الأسطوري الخرافي في السرد الحكائي كفيل بأن يعيد الحلم والأمل والإلهام، وأن يأخذنا في قيلولة على متن العاصفة، ويجعلنا ننسى وطأة الوجع وألم الوضع المزري الذي تعيشه الشعوب العربية.
من هو “رشيد الضعيف”؟ روائي و شاعر أكاديمي لبناني، ولد في العام 1945. ترجمت أعماله إلى عدة لغات عالمية، ولا سيما روايته “تصطفل ميرل ستريب”، و”عودة الألماني إلى رشده”، و”أوكي مع السلامة”، و”ليرننغ إنغلش”، وغيرها. منحه “المنتدى الثقافي اللبناني” في باريس “جائزة الابداع” لأنه “يرصد تحولات” مجتمع بلده في أعماله. حاز رشيد الضعيف درجة الدكتوراة في الأدب الحديث من جامعة السوربون في العام 1974. عمل مدرسًا للغة العربية للأجانب في جامعة باريس الثالثة من العام 1972 إلى العام 1974، وأستاذًا للغة العربية والأدب العربي في كلية الآداب والعلوم الإنسانية – الجامعة اللبنانية في بيروت من العام 1974 إلى العام 2008 حين تقاعده. وكان قد عمل أستاذًا زائرًا في جامعة تولوز الفرنسية من نيسان (أبريل) إلى أيار (مايو) 1999. تتلخّص فلسفة الضّعيف في الإيمان بأن الإنسان قادر بالمبدأ على الخلق والإبداع. الإنسان كائن خلّاق إذا انتبه إلى ما حوله.
رواية اليوم “الوجه الآخر للظّل”، رواية صدرت في طبعتها الأولى عن دار السّاقي اللّبنانية، من سنة 2022 وجاءت في 208 صفحة. حُبِكت أحداثها على شاكلة سابقتها “الأميرة والخاتم”، تُلْفِتُ نظر القارئ بداية من عنوانها الّذي يلمِّح إلى مرجعيّته الرمزية، فمفهوم الظّل مفهوم عميق ومتداخل مع فكرة الوجود المطلق والعدم، ومع فكرة التجلّي والعماء، ومع فكرة الموت والخلود، الموت وعنف التحوّل إلى عالم الغيب، يجعلنا نعيد التفكير في مسألة النور والظلمة.. فكلنا راحلون في رحلة باتجاه الضوء، وتعتبر مساحة الظل هي الأكبر من مساحة الضوء كونيا .. لأننا كلما ابتعدنا عن الأرض سنغرق في ظلام دامس، نوقن فيه أنّ الظل لا يقدر أن يصير أكثر ظلاّ، ولا بدّ له من وجه آخر يُظهر الكائنات الغيبية، فمن خلال العنوان وعمق الدّلالة يؤسّس الرّاوي لانتماء النصّ إلى الأسطوري الخيالي الذي يروم تفجير المعنى وتحرير المخيال من إحالاته الضيّقة، ويستخدم ضمير الغائب لاستعراض الأبطال ضمن الحكي، بما يفرضه منطق التغييب للذات بما لا يناسب حضورها كون الرواية تتجاوز الواقعي إلى الخرافي، فنسبح رفقة الضعيف في بحر زاخر تصب فيه مختلف المنابع السردية الحكائية. رواية متماسكة فنيّا تتمتّع بطرافة سرديّة تستمدّها من تراكم عوالمها وتداخلها تداخلا عضويا يستقطبها سؤال مركزيّ يشدّ إليه سفاسفها وتفاصيلها، وهو سؤال الشرف والعرش، في عالم تسيطر عليه سلطة الجماعة المتلبّسة بمَحْكِيّاتها العرفية السائدة، ولكنّ رهان المغامرة فيها كان يستند إلى الإيمان بسلطة الفرد وقدراته الهائلة على التحدّي وصنع التّاريخ الّذي يمثّله ويمثّل زمانه ومكانه. فالرواية تقدّم على أنّها سرديّة خيالية، أو لنقل السرديّة البديلة من الخرافة والأسطورة؛ لأنّهما يصنعان معا الوهم الانساني ويكرّران التراجيديا الإنسانية على نحو متشاكل واحد، لا فرق بينه وبين زمان وزمان، أو إنسان العصور القديمة والإنسان الحديث فالمغزى الكامن هو ضرورة التّحرّر من أصنام السّرد الإنسانيّة البالية واستبدالها بالفعل التّخييلي الواقعيّ، وترسيخ قيمة الفرد وقدرته على صنع معجزته الخاصّة. نختزل أحداث الرّواية في علاقة رجل بإمرأة. الرجل ملك مقتدر يملك من السطوة والتأثير في مملكته ما جعل الجميع يخضع لسلطته ومحكم رغبته. قرّر الزواج، فاختار امرأة فاقت نظيراتها جمالا و أدبا، يدخل بها و يخصّها بجناح ملكي في قصره، لكنّه رغم ذلك لم يطَأها منذ تزوّجها، فمشاعره التي يفترض أنها بالحب تنبض، استحلّت قلبه وصار بعذاب الشكّ والترقّب ينزف، أضنته الغيرة من مجهول سوف يبني علاقة جنسية مع المرأة التي يزمع الزواج بها حين تتوفر الظروف ويتأكّد من عفّتها، وضعها تحت الاختبار حتّى يأذن مفسّروا الأحلام والمنجّمون، فيسجِنُها في القصر وكأنّها مذنبة، وما عليها إلا الخضوع والطّاعة. إرادته هي التي تقرر مصيرها. وهو يقرر متى يأتي المولود إلى الوجود، ويتحكم بمصيره. ينسج الضّعيف على منوال القصّة المقدّسة، فيقتبس من قصّة مريم العذراء ليصوّر بمخيال غرائبي يميل إلى الأسطورة يجعل الملكة شبه إلهة تحبل فجأة من نُدفة غيمة تسقط عليها وتصيبها بحكّة غريبة في بطنها. وتَصْدُق حسب اعتقاده نبوءَتُه التي رآها حُلُما قبل الزواج لتتحقّق في الواقع، الملكة حُبلى دون أن يمسسها، ستنجب ولدا من غير صلبه يرث عرشه، دَنَسٌ يصيب قصره، فيضطرّ الملكة إلى الهرب و الولادة وحيدة بين أحضان الطبيعة، تأخذ الملائكة الولد في غفلة منها. تقضي بقية الزمن تبحث عن ولدها فلا تجده. ويمضي الملك، بعد أن بلغه الأمر، بقية الزمن يبحث عنها وعن الولد، بدافع الغيرة لا بدافع الحب. الغيرة من مجهول. تتسارع الأحداث فلا نكاد نعرف حدثا حتى تلحقه أحداث متتالية متسارعة ترافقها طاقة تخييلية عجائبية خارقة حيث تتسابق وتتلاحق الأحداث بخفّة لا نكاد نلحظها، تضل الملكة وجهتها ويضل ابنها مكان أمّه ويواجهان الأهوال من سحرة ومكر أفعى وعالم جنّ وفي كلّ مرة ينجوان بقدرة خارقة تلك القوّة الخفية التي يكرّس من خلالها الرّاوي انتصار الخير على الشّر. وبالوجه الآخر للأحداث يستمرّ الملك وأعوانه في تقفّي أثرهما لسنوات وقد باتوا على قناعة أنهم في مواجهة عالم من الجنّ. في جوّ من الصّراع الأسطوري الخرافي العجائبي بين الخير والشر تبلغ الرّواية ذروتها، بوقوع الملكة في حفرة النار وتنتهي حيث يكتشّف الملك أخيرا الوجه الآخر للحقيقة من حيث كانت تقبع في ظل ما يشاء أن يعرف لتنجلي في وجه آخر لظل حقيقة ما كان يجهل. ويسارع إلى انتشال ملكته من نهايتها البائسة إلى نهاية شاءت الأقدار أن تكون سعيدة.
لنسلّم في الأخير أنّ وجه الرّواية هذه، بالأساس، مرهون لظلّه وأن ما يظهره انعكاس الظّل هو نسخة وهمية عن صورة الشيء، بل إنّ غياب الشيء هو الذي يستدعي حضوره. وأنّ رمزية الرّواية تحيلها الي فضاءات تأويلية تعكس عبقرية الكاتب وتفرض وجوب مهارة القارىء لفكّ رموزها وإسقاط الرمز على الحقيقة لاستخلاص القيمة والعبرة، أن يدرك الأزمة العميقة في صورة المرأة ما بين القداسة المتأصلة الكامنة فيها، والدّنس الذي ألحقته بها ثقافة المجتمع، أن يدرك أنّ قوّة شخصيتها تجعلها قديسة أفلاطونية أغسطينية تجمع قيم الكون النبيلة من حق وخير وجمال لتنتصر في الأخير على كلّ القيم المنحطّة التي تُنسَبٌ إليها، أن يدرك أنّ الوجه الآخر للوجود يكمن في غايته، طالما أن الأرض تحافظ على دورانها وتعود إلى نقطة البداية من حيث يبدأ الخير لتنتهي إليه في دورة مفرغة وبداية مملوءة.