الأدب العجائبي تطوّر وساد عند العديد من الكتاب؛ شرقا وغربا،
يُعرفه تزتفيان تودوروف في مؤلفه عن الادب العجائبي:
أنه يتميز بتدخل عنيف للسر الخفي في الحياة الواقعية
العجائبي يفترض اندماجا بين القارئ، وعالم الشخصيات انه يتحدد بالإدراك الغامض، الذي لدى القارئ نفسه للأحداث المحكيّة
ويرى أن هناك شروطا ثلاثة لنحكم على عمل ما بأنه عجائبي : لا بد أن يحمل النص القارئ على اعتبار عالم الشخصيات كعالم اشخاص أحياء، وعلى التردد بين تفسير طبيعي وتفسير فوق ــ طبيعي للأحداث المروية ، ثم قد يكون هذا التردد محسوسا بالتساوي من طرف شخصية ؛ على ذلك يكون دور القارئ مفوضا إلى شخصية في نفس الوقت، يوجد التردد ممثلا حيث يصير واحدا من موضوعات الأثر ويتوحد القارئ مع الشخصية في حالة قراءة ساذجة أخيرا ينبغي أن يختار القارئ موقفا معينا تجاه النص:
يجدد الروائي اللبناني الكبير رؤيته الفنية وعالمه الأسطوري وأحيانا الغرائبي الذي يحملنا لأجواء عجائبية، ربما أحب أن يحملنا ثانية للغوص في تراثنا الميثولوجي العربي، وربما أراد من هول ما نعيشه في أيامنا وسط الخراب أن نتوه بعيدا في أساطيرنا، متسلحا بآلياته السردية الممتعة الخارجة من قلب ثقافتنا لغة وخيالا
تابعناها معه في أعماله السابقة مثل: غفلة التراب، وأهل الظل وغيرهما ومن هذه الرؤية وهذا التيار الأدبي جاءت روايته الأحدث الوجه الآخر للظل:
ومنذ أن بدأ هذا النداء يطرق أذن الملكة، انتابها قلق منع عنها النوم، فخرجت الى حديقة القصر ذات مساء وتمددت على العشب الطريّ الناعم، وتأملت السماء تجتازها سحب صيفية عابرة ثم فجأة لم تصدق ما رأت إذ انحدرت ندفة من طرف غيمة، وتحولت وهي منحدرة إلى فراشة بألوان قوس قزح ولما بلغت الارض أدلت بحبل رفيع من نور في بئر وفي طرف الحبل قدح صغير ملأته ماء صافيا واخرجته من البئر وقدمته الى الاميرة التي ما إن شربت ما فيه اختفى
اختفى القدح لأنه هو ذاته كان ماء أيضا
واختفت الفراشة
واحست الاميرة بالماء يسيل في دمها
ثم نهضت ممتلئة بما فيها بفرح ينبعث من اعماقها لم تعرفه من قبل لكنها خافت شغل بالها هذا الفيض من الفرح الذي ملأ كيانها.
سنجد هنا ندفة تتحول إلى غيمة، ومن ثم تتحول إلى فراشة تأخذ لون قوس قزح، ثم تُدلي بحبل فيه قدح صغير، فتشرب مه الأميرة ثم يختفي القدح، والكاتب يقول أنه اختفى لأنه ــ أي القدح من ماءــ ثم تختفي الفراشة أيضا، وتحس الأميرة بالماء يسيل في دمها فتنهض ممتلئة بالفرح؛ حتى أنها تستغرب حدوث هذا الفرح بعد شربها الماء لدرجة أنها خافت من فرح كبير مثل هذا يهز كيانها!
لو أننا أمعنا النظر سنجد هذا المقطع بيانا وبرهانا على أدب عجائبي، يستحوذ على خيال القارئ وعقله حتى لكأنه يستحضر غيمة تتحول لفراشة، وفراشة تحمل كوبا وأميرة تشرب وترتوي ثم بعد هذا كله يختفي القائمين بهذه الأدوار! هنا ينجح الكاتب في صنع خيال موازي للواقع يُصدقه القارئ، ويواصل بشغف مع السرد حتى النهاية ليرى كيف سيتكشّف هذا العالم الغرائبي، وما هي الرسائل التي يريد الكاتب توصيلها
تبدأ الرواية حين يحلم الملك أن ابنا ليس من صلبه سيرث مملكته، فيقرر ألا يقترب من زوجته فتحمل فجأة من أثر غيمة، وتهرب خائفة من افتضاح أمرها، وتظل هائمة على وجهها في جو خرافي واسطوري، فمرّة تتلبس بالجن الذي يحميها من المهالك، بما له من قدرة على التخفي، ومراوغة ليست بإمكان البشر
ومرة أخرى نرى الملك بدوره ــ بعد أن هربت زوجته ــ يًربي أفعى تعتاش على طعام من أدمغة البشر الهالكين؛ مجرمين أو ممن يحكم على الملك بالقتل لسبب واهي؛ لتتبّع أثر الزوجة الهاربة، ونرى الشجر الذي يخرج منه رجال أيضا، يقومون بأدوار مساعدة أو ينقلون خبرا ثم يختفون، إذا فالعجائبي يحيا حياة ملؤها المخاطر، وهو معرض للتلاشي في كل لحظة، يظهر أنه ينهض بالأحرى بين نوعين هما العجيب والغريب؛ أكثر مما هو جنس بذاته؛ إنها أجواء تحملنا لألف ليلة وليلة لنرى عبرها قدرة الكاتب العبقرية في السرد المتهادي والتخييل الذي يمتعنا:
لم يبلغ الملك هدفه في القبض على الملكة، لأن الملكة لم تهرب إلى مكان، بل جمعت في صرّة ما استطاعت من طعام ولباس، وغير ذلك مما لا غنى عنه، وخرجت قاصدة مكانا تقوده إليه خطواتها.
لم تسع إلى مكان، بل سعت وحسب، برعاية قدرها.
وبعد ساعات من المسير، وجدت نفسها ذاهبة إلى القفر لا إلى مدينة ولا إلى بنيان، لم تقلق، إذ يكفيها ظل شجرة وعين ماء، لا أكثر، على جبل أو في صحراء، وهي واثقة من العثور على مكان تبيت فيه، ألم تلدها أمها لحكمة ما، وإن لم تدرك لها غاية؟
لكن هذه الثقة لم تمنع عنها الخوف، كانت خائفة أيضا فالمجهول باب التوقع والخوف ليس مذلة بل ذكاء وانتباه
فاذا كان قدرها أن تمزق جسدها الوحوش فليكن، لن تتخلى عن الذي في بطنها، إنه ابن الصوت الذي سمعته، وابن النداء الذي استجابت له والحشرة سعت اليه، ولن يتمكن ملك ولا عبد من أن ينال منه.
وما أثار دهشتها أنها وهي في الطريق، رأت مرات عديدة حيوانات تتقدم نحوها مسرعة منقضة ثم تتوقف فجأة كأن صادّا صدّها بأن حثا على عينيها التراب، لا شك في أن كائنات خفية ترافقها وتحثو التراب على أهين الحيوانات المعتدية فتخاف وترتدع.
يحقق الغريب كما هو واضح شرطا واحدا للعجائبي: وصف ردود فعل معينة، وبصفة خاصة الخوف؛ إنه مرتبط بأحاسيس الشخصيات وليس بواقعة مادية تتحدى العقل؛ بل على العكس سيتسم العجيب بوجود أحداث فوق ــ طبيعية.
في هذا المقطع السابق سنراها تمضي إلى لا مكان! ثم بعدها يقول إنها مضت إلى حيث تقودها خطواتها! هنا يتضح كيف للغريب أن يمهد للعجيب، ثم نرى مشاعر الخوف فهي تمضي إلى المجهول والمجهول باب التوقع، وهو ــ أي الكاتب ــ في تعاضد مع الشخصية يقول لنا: أن الخوف ليس مذلة بل ذكاء وانتباه!
في التخييل العجائبي نحن بعيدون عن التفسير العقلاني والكاتب يلجأ هنا إلى استحضار كائنات غير مرئية أو أرواح: فحين كانت تسير في الطريق رأت مرات عديدة حيوانات تقترب منها لكن ــ العجيب ــ أنها ما إن تقترب أكثر حتى تغيم الرؤية أمامها، كأن صادّا عفّر عينيها بالتراب فتبتعد عن طريق الملكة!
هكذا على طول الرواية سنجد خيالا يتتابع في جو خرافي وأسطوري شيق، يأخذ بزمام القارئ حتى يطارد تنقلات الملكة وشخصيتها القوية ورفضها لأن يتصرف أي أحد بجسدها، ومثابرة الملك ليقبض عليها ويفهم تفسيرا لحلمه:
كيف لوريث ليس من صلبه سيرثه، لنكتشف ونحن نقترب من نهاية الرواية كأن حياتنا حين لا ننتبه لمسارتها تأخذ مسارا غير الذي نبتغيه ونظل نعيش في متاهة ظلال الحياة وليس الحياة! كما يقول هنري ميشو: أما أنت يا حياتي فتسلكين السبيل دوني!
وتمنى الملك لو أن الوقت يعود بهما إلى الأيام الأولى، ولو أنه وثق بها، ولو أنه أكمل زواجه بها، ولو أن الأيام تعاقبت كما تتعاقب الأيام، ولو أن الصيف تلى الشتاء، والشتاء تلى الصيف، لكن الحلم مهما اتسع، تحده اليقظة والأيام لا تتعاقب كما هو باد؛ فالدهر ينصب المكائد للأيام فتتعثر في جريها؟
كما عودنا رشيد الضعيف في أعماله الروائية وهو أيضا شاعر سنرى في هذه الرواية الفاتنة لغة شعرية عميقة تأتي بأريحية شاعر لا لبس فيها ولا افتعال: آلام تعبر ولا يدوم غير الوجدان؟
ومثل هذا المقطع الجميل: فحوى الأيام التي تعبر خلف الأيام: ربما أراد أن يقول لنا: أن هناك أشياء أعظم منا تؤثر في حياتنا ونحن لا نكترث بها، لعله القدر، لعله الحظ…
سنرى مقطعا يشع حكمة: لا تعش في الندم ولا تحيّ في الحسرة ولا تسجد لذكرى.