لا نستطيع بسهولة أن نصنّف “الأميرة والخاتم”، روايةَ رشيد الضعيف الأخيرة، داخل عمله الروائي. إنها جديدة عليه، لكنها ليست المرّة الأولى التي يفاجئنا فيها بعمل جديد عليه. الواضح أنّ التجريب يطبع هذا العمل، فقد سبق للضعيف أن أضاف إليه أنماطاً عدّة. هناك عملٌ للأطفال وروايات تاريخية، واليوم يطلع علينا بروايةٍ قد يسعنا أن نسمّيها رواية للأطفال أو الفتيان، لكن هذا لا يكفي، فالرواية نلهث خلف ما فيها من صُوَر، لا يكاد يمرّ مقطع إلّا ويطلع علينا بصورة.
قد يدعونا هذا إلى أن نتذكّر مِن بعيد روايةَ “أليس في بلاد العجائب”، لكننا لا نتوقّف هنا، فنحن نتذكّر أيضاً حكايا مثل “الأميرة النائمة”. وبعيداً عن ذلك، قد نتذكّر القصص القرآني، أهل الكهف، كما يرشدنا الروائي عن قصد إلى فلسطين، التي وحدها تتسمّى بين الأماكن، وإلى “السيد” الذي لا يخفى مرجعه. هنا يتعمّد الروائي أن يسمّي، أو يكاد، المسيح.
نحن هنا أمام عمل محبوك بحياكة متواترة من خيارات وأساليب شتّى، ويطلّ على آفاق وحقول مختلفة، يقدر على دمجها في عمله، بدءاً من حكايا الفتيان، مِن الملك والملكة، ليمضي في مستويات ومنعطفات شتى، بقدرة كافية على الاعتصار والتكثيف، وعلى دغم واستخلاص أغراض مختلفة، وأهمّ من ذلك قدرة على صناعة الصُّوَر. لا يكاد يمرّ سطر أو أكثر بدون الوقوع على صورة أو النفاذ إلى صورة. بحيث يبدو العمل وكأنه أخذ كثيراً من جهد المؤلّف، وسيأخذ كثيراً من جهد القارئ، فالعمل مركّز مقطّر، وهو بهذه الصفة يمسك الأنفاس، ويستدعي اللهاث خلف الصور والتفاصيل.
لا يكاد يمرّ سطر دون الوقوع على صورة أو النفاذ إلى صورة
الرواية، كما قلنا، تبدأ كحكاية للفتيان، من الملك والملكة. في هذه البداية نقع على أولى لوحات العمل: اكتشاف الغروب، والغروب هنا سحري، إنه الوادي الذي يبتلع الشمس. نحن هنا أمام الملك والملكة في رواية تكاد تكون قائمة بذاتها، لكن “الأميرة والخاتم” رواية من روايات. إذا خلصنا إلى الغروب فستبدأ الرواية الثانية وهي رواية “الأميرة النائمة” “التي يقدّر العارفون أنها ستنام طويلاً لتصل إلى محبوبها”، وبالفعل تنام الأميرة أعواماً، بل وقروناً بحالها لتصل بعد أن تستيقظ إلى رؤيا “القدم المعشوشبة، التي تقتفيها بعد أن استيقظت، لتصل بعد رحلة طويلة في المفازات، إلى فلسطين التي يسمّيها المؤلّف هذه المرة عامداً، ولتصل في فلسطين إلى “السيّد” الذي لن يكون سوى المعلّم.
هكذا نصل إلى المسيح الذي لن يكون محبوبها الموعود، إذ إنه ليس لها وحدها ولن يكون. ستقف هنا الرواية الثانية التي يمكننا أن نطلق عليها “الأميرة النائمة”، أمّا الرواية الثالثة والأخيرة فستكون هذه المرّة البحث عن المحبوب وإيجاده، لكن محور هذه الرواية هو الخاتم الذي تبتلعه الصخرة ويبقى مدفوناً فيها في الأرض التي تُسمّى فلسطين.
لا نعرف كم في ذلك من إيعاز سياسي، فليست هذه التسمية عبثاً، وليست تسمية السيّد والمعلّم عبثاً، ولا يبقى الخاتم في صخرة فلسطين عبثاً. قد يكون ذلك تعبيراً بالصور عن المسألة الفلسطينية، تعبيراً لا تخفى شاعريته أو ما فيه من شعر. ليست هذه المرّة الوحيدة التي نعثر فيها على الشعر في الرواية. إذا كانت الرواية صناعة مثابرة للصور، بحيث لا يكاد يخلو منه أي سطر، فإن الرواية تكاد تكون جميعها مقطعاً فمقطعاً بل سطراً فسطراً، هما بالشعر ودنواً منه وإلماحاً به.
هذا يعيدنا إلى الضعيف الشاعر كما بدأ في “حين يحلّ السيف على الصيف” أو “لا شيء يفوق الوصف”، لينتقل بعدها إلى الرواية التي اعتمد فيها لغة تنأى عن الأدب، أي أنّ الشعر لم يكن ماثلاً فيها. هل يمكن أن نعتبر روايته الجديدة عودة إلى الأدب؟ هذا ما نلاحظه في لغة لا تبتعد هذه المرّة عن الاستعارة والتصوير.
قد لا تكون هذه السمة الوحيدة الجديدة التي نعثر عليها في الرواية؛ ففيها أيضاً ميل إلى التفكير، لكن من خلال السحر والأخلاق. لسنا نجد الواقع، حتى في أدق تفاصيله إلّا وهو متحوّل بالسحر. اليوميات تنقلب في الرواية مسحورةً والعالَم في أدق ثناياه وصغائره، يبدو وكأن السحر يسطو على كل ما فيه. إنه عالم مسحور وواقع مسحور. لكن حين نقرأ كلمة “صالح”، وحين نرى الرواية تتكلّم عن القرين، نشعر بأنّ في ذلك نوعاً من الميتافيزيق. للرواية ميتافيزيقها، نشعر به ونبقى على حافته، بدون أن يعلن وبدون أن نصل الى تفاصيله. مع ذلك فإن “الرجل الصالح” هو كالسيّد والمعلّم موجود في نسخة أخلاقية، تكاد أحياناً تصل إلى افتراض دين خاص أو أخلاق خاصة.